مصطفى المنوزي
يمثل حديث محمد أوجار خروجاً ظاهرياً عن الخطاب الرسمي النمطي، لكنه في جوهره اعتراف مُصمّم بدقة، يكشف عن بعض الحقائق بينما يحجب أخرى، ويوجه نقداً جزئياً للسلطة دون أن يتجرأ على الاقتراب من لبّها. فهو، بصفته قيادياً في الحزب الحاكم الذي يجيد خطاب الدولة أكثر من خطاب المعارضة، يؤكد حقيقة معروفة: المنتخبون يوقّعون، لكن القرار الفعلي بيد الدولة. الجديد في كلامه ليس المعلومة، بل توقيت طرحها وهوية مَن نطق بها، وما تحمله هذه “الجرأة” القادمة من داخل النظام من دلالات سياسية ورمزية.
يجمع خطاب أوجار بين الاعتراف والتبرئة؛ فهو يعترف بهيمنة الإدارة الترابية (الولاة والعمال) على القرار العمومي، لكنه يبرّئ النخب الحزبية – بما فيها حزبه – من أي دور تاريخي في ترسيخ هذا الواقع، وكأن هذه البيروقراطية قد تشكلت بمعزل عن إرادتهم. قوله بأن الوزير قد يعجز أمام “إرث إدريس البصري” هو إحياء لرواية مريحة: “السياسي ضحية”، بينما الواقع أن كثيراً من هذه الأحزاب ساهم في تدعيم البنية التي ينتقدها الآن، سواء بصمتها أو تواطئها أو استفادتها منها.
من الناحية الرمزية، توحي نبرة أوجار بجرأة لا تكلف ثمناً؛ جرأة تفضح بعض العلاقات لكنها لا تمسّ قواعد اللعبة الأساسية. إنها محاولة لإعادة ترتيب موقع الرجل داخل الدولة، أكثر من كونها دعوة لإعادة صياغة العلاقة بين السياسة والسلطة. فتصريحاته مثل “الرئيس لا يرفع القلم إلا بإذن” أو “المنتخب لا يسيطر إلا على أقل من 10% من الميزانيات” تقدم السياسي ككيان عاجز، محاصر بهيمنة غير مرئية. صورة ملتبسة، لأنها تنفي المسؤولية التاريخية عن الفاعل الحزبي وتمنحه حق التذمر دون واجب المراجعة.
وحين يربط أوجار نقاشه بملف الصحراء وبالحاجة إلى تعديل دستوري ونخبة جديدة، فهو لا يدعو إلى تغيير جذري، بل إلى إعادة توزيع للأدوار داخل النسق القائم، تحت غطاء “ضرورات المرحلة” و”المصلحة الوطنية”. وهذا ما يجعل خطابه، رغم حدّته اللغوية، جزءاً من سردية إصلاح شكلية: ترفع شعار الشفافية ولكنها تتجنب جوهر الإشكال، المتمثل في تعايش بنية سلطوية مركزية مع واجهة حزبية تمثيلية محدودة الفاعلة.
ما قاله أوجار يعكس أزمة السياسة في المغرب: دولة تريد أحزاباً بلا سلطة حقيقية، وأحزاباً تريد مناصب بلا تكلفة سياسية، وانتخابات يهيمن عليها رجال الأعمال ويغيب عنها الشباب والنساء. إنها منظومة حوّلت البرلمان إلى فضاء شكلي أكثر منه مؤسسة قرارية، وجعلت المنتخبين مجرد واجهة تنفيذية لصلاحيات لا يمتلكونها. ولعل أخطر ما كشفته هذه التصريحات هو ذلك الإقرار غير المباشر بأن “الديمقراطية بسرعتين” ليست مجرد انطباع، بل واقع ممنهج: في الجنوب حكم ذاتي بآليات قرار فعلية، وفي باقي الجهات وصاية إدارية تقاوم منطق اللامركزية.
ستبقى مداخلة أوجار حدثاً لكونها صدرت من داخل دائرة الحكم، ولأنها اخترقت جدار الصمت الرسمي. لكنها ستظل ناقصة لأنها توقفت عند السطح دون الغوص في لب الأزمة: هل المشكلة في الإدارة أم في بنية السلطة ذاتها؟ هل الحل في نخبة جديدة أم في قواعد لعبة جديدة؟ هل المطلوب تعديل دستوري أم عقد سياسي جديد يعيد الاعتبار للتمثيل والمحاسبة؟ هذه الأسئلة التي تجنب أوجار الخوض فيها هي التي ستحدد مستقبل المشهد السياسي، وهي نفسها التي تؤجل السلطة الإجابة عنها باستمرار .
