معاد ايحوف
على بُعد كيلومترات قليلة فقط من قلب مدينة مراكش، حيث تتلألأ أضواء المشاريع الكبرى وتزدهر شوارع المدينة بتنظيمها وجمالها، تمتد جماعة تسلطانت في صمتٍ يختزن حكاية مغايرة. هنا، في الدواوير المترامية بين دوار لهنا و الشريفية وزمران والنزالة وباقي الدواوير، يبدو الزمن كأنه توقف منذ زمن بعيد، تاركًا وراءه ملامح من الإهمال والتراجع.
الطرقات التي يفترض أن تصل الناس ببعضهم البعض، صارت اليوم سببًا في معاناتهم، مسالك محفّرة تتناوب عليها الحفر والمطبات، وأزقة تتحول مع أول تساقطات مطرية إلى برك من الطين والأوحال، وفي النهار، يتفادى المارة والعابرون الحفر بحذر، وفي الليل، تغيب الإنارة عن مقاطع كثيرة، فيتحول التنقل إلى مغامرة غير مأمونة العواقب، وكذا الطريق الرابطة بين تسلطانت ومراكش “طريق أوريكا” التي أصبحت تُعرف بين السكان بـ”طريق الموت”، لما شهدته من حوادث مأساوية أودت بحياة تلاميذ ومارة، في ظل ضعف البنية الطرقية و ضعف الإنارة الكافية و غيابها احيانا، ورغم وجود إشارات تشوير متفرقة، إلا أن حال الطريق يوحي وكأنها شهادة شكلية لا تصمد أمام حجم الخطر اليومي.
أما البيئة، فقد باتت تعكس معاناة هي الأخرى، مشهد الأزبال المتراكمة في الأزقة صار مألوفًا، حتى غابت عنه الدهشة، الحاويات المتهالكة لا تكفي لجمع الكم الهائل من النفايات، وشاحنات الجمع لا تزور بعض المناطق إلا على فترات متباعدة، فيتراكم القمامة، وتتصاعد الروائح، وتنتشر الكلاب الضالة والذباب في مشهد يُسيء لصورة المنطقة، خصوصًا وهي لا تبعد إلا دقائق معدودة عن مدينة تُعد من أبرز الوجهات السياحية في البلاد. هنا، صار التعايش مع الأوساخ أمرًا واقعًا، والاحتجاج ترفًا لا طائل منه.
في الجانب التعليمي، تتجلى معاناة أكثر قسوة. كل صباح، وقبل أن تبزغ الشمس تمامًا، يخرج أطفال صغار من بيوتهم في رحلة طويلة نحو مدارس بعيدة، يحملون محافظهم الصغيرة، ويمشون على أقدامهم أو ينتظرون أن يمر أحد المارة ليقلّهم على دراجته. مشهد يتكرر يوميًا عند مداخل الدواوير، حيث يتحول طلب العلم إلى مغامرة حقيقية، البعض يقطع أكثر من ثلاث كيلومترات يوميًا، وآخرون يضطرون إلى ترك مقاعد الدراسة في سن مبكرة بسبب المسافة أو غياب النقل المدرسي، التعليم الذي يفترض أن يكون حقًا مضمونًا، صار عبئًا يثقل كاهل الأسر وأبناءها.
ولم تقف المعاناة عند هذا الحد، إذ تناقلت أوساط الساكنة نية الجهات المعنية هدم فرعية منار الابتدائية الواقعة على طريق تحناوت، بدعوى توسيع الطريق. هذا القرار، إن نُفّذ، سيحرم عشرات الأطفال من حقهم في التمدرس، خصوصًا أبناء دواوير الشريفية والمناطق المجاورة الذين يعتبرون هذه المؤسسة التعليمية الوحيدة المتاحة والقريبة منهم، فرعية منار ليست مجرد جدران، بل ذاكرة جماعية لأجيال تتعاقب منذ عقود، وهدمها سيكون بمثابة محو جزء من تاريخ المنطقة، قبل أن يكون مشروعًا هندسيًا، بدل التفكير في بناء مدارس جديدة أو توسيع العرض التربوي، يتم التفكير في هدم الموجود، في مفارقة مؤلمة تلخص سوء التدبير وغياب الرؤية المستقبلية.
وتستمر المعاناة في تفاصيل الحياة اليومية، من صعوبة الحصول على رخص الربط بالكهرباء إلى التعقيدات الإدارية التي تُطيل الانتظار وتزرع الإحباط في النفوس، فبينما تتحدث الخطابات الرسمية عن تعميم الخدمات وربط القرى بالشبكات الأساسية، لا يزال سكان تسلطانت يعيشون على وقع الوعود أكثر مما يلمسون من أفعال.
هنا، في هذه الجماعة القريبة من مراكش حدّ التماس، والبعيدة عنها حدّ الإهمال، يختزل الواقع معاني المفارقة، فالقرب الجغرافي لم يجلب التنمية، والمسافة القصيرة لم تختصر سنوات الانتظار، تسلطانت اليوم ليست فقط جماعة تعاني من ضعف البنية التحتية، بل فضاء يئنّ تحت وطأة غياب العدالة المجالية، وغياب الرؤية التنموية التي تضع الإنسان في صلب الاهتمام.
ورغم كل ما كُتب وقيل، تظل الأوضاع على حالها، فالمشاريع التي تُعلن في المناسبات غالبًا ما تبقى حبيسة الورق، وإن طُبقت، فهي إصلاحات جزئية لا تلامس جوهر المشكلة. وبين الوعود المؤجلة والواقع المرهق، يواصل سكان تسلطانت حياتهم بصبر، على أمل أن يأتي يوم تُفتح فيه الطرق كما تُفتح الملفات، ويُنظر إليهم لا كهوامش جغرافية، بل كجزء من وطن يستحق حياة كريمة.

جماعة تسلطانت اليوم نموذج مصغر لما تعانيه مناطق عديدة من المغرب غير النافع: قُرب جغرافي من مراكز القرار، وبُعد تنموي شاسع، هي جماعة تُعاني بصمت، ويعيش سكانها على أمل أن يأتي يومٌ تُفتح فيه الطرق كما تُفتح الوعود، ويُنظر إليهم لا كمجرد هامش جغرافي، بل كجزء من وطن يستحق العدالة المجالية والعيش الكريم، لقد آن الأوان لتتحرك الجهات المعنية بجدية، ولتُترجم الشعارات إلى واقع ملموس،
فتسلطانت ليست بحاجة إلى وعود جديدة ولا إلى مشاريع تجميلية ظرفية، بل إلى رؤية واضحة تضع الإنسان أولًا، وتمنحه حقه في العيش بكرامة، لا أكثر ولا أقل.
