عبد الحق غريب
في الدول الديمقراطية، لا يعتبر تصريح الوزير مجرد كلام عابر، بل يُعد خطابا رسميا صادرا عن سلطة تنفيذية، يخضع للمساءلة أمام المؤسسات الدستورية والرأي العام.
وعندما يدلي وزير بتصريحات تتضمن أرقاما أو معطيات مضللة حول القطاع الذي يديره، تثار ضجة سياسية وإعلامية واسعة قد تؤدي إلى تقديمه لاستقالته، حفاظا على نزاهة المنصب واحتراما للمؤسسات وللرأي العام.
الأمثلة كثيرة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر حالة وزير الهجرة الهولندي مارك هاربرز الذي أعلن في مايو 2019 استقالته من منصبه، بعدما تبين أن تقريرا قدمه إلى البرلمان تضمن معطيات غير دقيقة، حيث واجه انتقادات برلمانية وشعبية قوية، قدم على إثرها استقالته قائلا إنه يتحمل “المسؤولية السياسية الكاملة” عن إخلاله بواجب إخبار البرلمان.
في المغرب تغيب ممارسة المحاسبة الديمقراطية عن تصريحات الوزراء. فمنذ حكومة بنكيران، تكررت بشكل ملفت خطابات مثيرة للجدل من عدد من الوزراء دون أن تُصاحب بأي تدقيق أو أي مساءلة.
وعندما يُسأل وزير ما عن تصريح من هذا النوع، غالبا ما يرد بصفاقة، متهما الإعلام بتأويل كلامه أو متذرعا بأن حزبه مستهدف، رغم أن تصريحاته موثقة ومسجلة بالصوت والصورة.
في السياق نفسه، لا يختلف السيد عز الدين الميداوي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، عن غيره من الوزراء الذين تُثير تصريحاتهم أسئلة أكثر مما تقدم أجوبة.
فخلال عرضه لمشروع الميزانية الفرعية لقطاع التعليم العالي أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، مساء الاثنين 3 نونبر، بدا السيد الوزير مرتبكا وفي حالة من التوتر الظاهر، إذ دافع عن مشروع القانون 59.24 وكأنه في موقع المتهم، ولا سيما ما يتعلق ب “التوقيت الميسر”، مقدما أرقاما فلكية مثيرة للشكوك، من قبيل قوله إن الموظفين يمثلون 40% من مجموع الطلبة المسجلين ببعض المؤسسات, وأن بعض الجامعات تتلقى من الوزارة حوالي 3 أو ن4 مليارات سنتيم، بينما يصل دخلها من برامج التكوين المستمر إلى 13 مليار سنتيم.
هذه الأرقام من هذا الحجم تستدعي التحقق والتدقيق، فهي تبدو مبالغا فيها إلى حد كبير وتثير تساؤلات جدية حول مصداقية البيانات الرسمية ومنهجية إعدادها.
لم تتح لي الفرصة لمتابعة مداخلته كاملة خلال هذا الاجتماع، وربما تضمن كلامه أرقاما أخرى أو معطيات تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، خاصة أن الوزير بدا في هذا اللقاء مرتبكا وغير مقنع، وأعطى الانطباع أنه كان مستعدا لكل شيء من أجل إقناع أعضاء اللجنة بتمرير القانون 59.24، ومعه نظام “التوقيت الميسر”.
وفي الحقيقة، الوزير لم يكن موفقا في هذا اللقاء، ليس لأنه لم يُقنع فقط، أو لأن خطابه افتقر إلى الرصانة والاتزان المطلوبين في مثل هذا المقام، بل لأنه أساء في كلامه إلى الأساتذة الباحثين عندما علق فشل الإصلاحات بالجامعة على الخلافات بينهم، وربط مسؤوليتهم الأساسية بتحصيل الأموال من التكوينات المؤدى عنها أكثر من أداء رسالتهم النبيلة.
وأساء كذلك إلى الجامعة عندما قال أنها بحاجة إلى ما يسمى ب “التوقيت الميسر” لتتحول إلى “نحلة” تشتغل من الصباح إلى المساء، وكأنها مشروع إنتاجي يُدر الأموال، وليست مؤسسة دورها الحقيقي هو إنتاج المعرفة وخدمة المجتمع والبحث العلمي الرصين.
وأساء أكثر إلى نفسه وإلى موقعه الحكومي حين استعمل عبارة لا تليق بمقامه ولا بمؤسسة دستورية يُفترض فيها التحفظ والاتزان، حتى وإن حاول تبريرها بالمزاح.
في الختام… تظل العودة إلى تسجيل الجلسة وتدقيق مضمون مداخلة السيد الوزير وأجوبته أمرا ضروريا وواجبا، ليس فقط للتحقق من صحة تصريحاته ومصداقيتها، بل لمساءلته مؤسساتيا عن الأزمة التي تعيشها الجامعة العمومية. وهذه المهمة تقع على عاتق البرلمان، النقابة الوطنية للتعليم العالي، نقابات الموظفين (CDT وUMT)، والإعلاميين والصحافيين، وكل المهتمين من أجل صون المصداقية الأكاديمية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
