آخر الأخبار

تاج المعلقات

إدريس بوطور 

( وما زال تشرابي الخمور ولذتي ** وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدي ** إلى أن تحامتني العشيرة كلها ** وأفردت إفراد البعير المعبد ** ) *************************** بيتان شعريان من معلقة طرفة بن العبد التي تعتبر في نظري تاج المعلقات السبع أو العشر ، لما ضمته ابياتها من مواضيع ومظاهر تهم حياة العربي في الجاهلية وطقوسه وتعامله الاجتماعي ونظرته الفلسفية إلى الحياة ، بالإضافة إلى قوة لغتها وسمو بيانها ** لا يمكنني الإحاطة بهذه المعلقة من جميع أطرافها إلا أنني سأكتفي بالوقوف عند تحليل بيتي المقدمة للوصول إلى ما ارومه من عرض هذه التدوينة ** بخصوص الشرح المعجمي لبعض كلمات البيتين هناك كلمة ” تشرابي ” بفتح التاء وسكون الشين والتي تعني الشرب المتوالي والمستمر للخمر ، ثم كلمتا ” طريفي ومتلدي” وهما الجديد والقديم أو الجديد والبالي ، ثم كلمة “تحامتني ” أي تجنبتني وتفادتني ، ثم تركيب ” البعير المعبد ” هو البعير الأجرب والمطلي بالقطران ** من خلال هذا الشرح المعجمي تتبين لنا كلمات اصيلة في اللغة العربية لم تعد تستعمل منذ زمن بعيد ومنها كلمة ” تشرابي ” ، فدخول التاء على مقدمة الاسم يعني في لغة العرب الأصيلة تكرار فعل الشيء وعليه فإن كلمة “تشراب “في البيت الأول تعني الشراب المتوالي والمتكرر للخمر ويقابلها في لغة اليوم الإدمان على شربها ** وهناك كذلك كلمة ” متلدي ” التي تعني قديم الشيء وباليه ، هذه الكلمة غير واردة بهذه الصيغة ” متلد” في قواميس اللغة العربية المتداولة اليوم بل نجدها بصيغتين فقط “تالد وتليد ” ،وأخيرا هناك تركيب “البعير المعبد ” ويعني عندما يمرض البعير بداء الجرب المعدي يطلى بالقطران ويعزل في الخلاء عن باقي القطيع السليم ، فعملية الطلي بالقطران تسمى التعبيد ، ومن هنا جاءت كلمة ” تعبيد الطرق ” أي طليها بالزفت ** لكن الجميل الذي قرأته قراءة مجهرية بين ثنايا البيتين موضوع التدوينة هو أبعد من الشرح المعجمي ذلك أن طرفة بن العبد من خلال هذين البيتين صور لنا حالته النفسية اليائسة المضطربة من أثر ” التشراب ” أي الإدمان على شرب الخمر ، كما صور لنا ندمه الشديد على فعل ذلك الأمر الذي وصل به إلى التبذير والافلاس والعزل من القبيلة والوسط الاجتماعي ، والوصول إلى حياة المذلة والهوان والحقارة كما يعيش البعير الأجرب المعبد ** خلاصة القول فالشعر الجاهلي عامة والمعلقات خاصة هي تاريخ وطقوس وميثولوجيا واجتماع وفلسفة ، وقد يظن العديد أن المجتع العربي الجاهلي كان مجتمعا بدائيا همجيا سكيرا ليست له أسس أخلاقية ، لكننا بقراءة معلقة طرفة بن العبد تتجلى لنا أمور كثيرة منها سمو الأخلاق والدفاع عن المظلوم واغاثة الملهوف واحتضان المستجير والوعي بخطورة بعض العادات السيئة ومنها الإدمان على شرب الخمر الذي حرمه الإسلام عند ظهوره بنص قرآني.