حسن الرحيبي
لمّا يَأتي شخصٌ غَريب عن دوّارنا لاَ أستطيع إقناعَه بأن الدّوّار ومُحيطه كان بمُنتهىٰ الرّشاقة والجمال والأناقة ، والازدهار حين تسقط أولىٰ الأمطار ، فتتسابق مختلف النباتات على الانبعَاث من عُمق التّربَة الخصبَة التي أذبلتها أشعة الصّيف القائظة ، وأتعبتها أقدامنا الحافية ونحن نركضُ في كل اتّجاه نلعب قاشّ وبيضَة تشخخّ ، أو نجري خلف أسراب طيور لا أول لها ولا آخر نستدعيها للنزول كي تأكل ممّا أعددنا لها من ولائم دود حنبازة الأبيض السّمين ، لكن خلفه تكمن أفخاخ حديدية غادرة تنقبض عليها من دون أن تدري .. لكن بعد نزول المطر تكتسي الربى والحصَائد خضرة وأزهاراً جميلة تعبق بمختلف الروائح والألوان والأشكال ..نرعى الموَاشي أو نركب الجُحوش لجلب حشائش الربيع في شكل أسراݣ بينما تتطاير من تحت حوافرها حشرات بوجعران محتفلة بمخَلفات الدواب وأبقار الزنايݣ ، منهمكةً في صُنع كويرات صَغيرها تدحرجها من أجل دوائر الزمان ، وحفظ دورة الحياة .. وصَفير قبرات الحقول المنبعث من الجو وهي تتراقصُ مبتهجة بالربيع مراقبةً أعشاشها من الأعَالي الشاهقة .. قبل التوجه للمدرسة خلال حصّة المساء وسط السنابل الطافحة نحندݣ ما شاء لنا مسارنا حتى نبلغ الأقسام .. بينما التلاميذ يردّدون جماعة محفوظات جميلة حول الأرملة المرضعة للرّصَافي ، أو الهدهد وسليمان لشَوقي .. وقف الهدهد أمام باب سليمان بذلة .. جَمال واجتهاد وابتهاج حللّت محللّها اليَوم بشَاعة الجَفاف القاسية ، وتصَحّر التربة المَقيت ، وحلول السّدر البري الطفيلي العقيم العاقر ، مكان صُبّارنا الجميل المعطاء الذي كانت تبهج أزهاره النّحل وأطفال الدوار ، خلال مهرجان من الجمال وعبق الأزهار من جمرة وكركازة وبللّعمان ، تلوح أزهاره الحمراء القانية من بعيد ، تحت وابل من أمطار الربيع ، وزغاريد نساء الطالوع تصدح عبر الوهاد والبسَاتين والحقول ..وجوقة الرّاغية والثّاغية والصّاهلة والناهقة .. تتوحد في شكل نغمة مُوسيقية رائعة أصبحت اليوم من ذكريَات المَاضي البَعيد ..
حسَن الرّحيبي..