آخر الأخبار

بين فلسطين  و قانون المالية: هناك إختيار

إدريس الأندلسي

تعودت منذ سنوات كثيرة أن أتابع مسار مشروع قانون المالية و اساهم في تحليل فرضياته  و أرقامه  و ما يرافقه من تعديل و تغيير القواعد الضريبية  و تعاطي مع التمويل  و المديونية. هذه السنة ليست كباقي السنوات.  محيطنا المتقلب لم يعد مرتبطا بالكوفيد  و الحرب الاوكرانية الروسية  و تقلبات أسواق المواد الأولية.  هذا المحيط تحول ما يمكن أن  نسميه كابوس في عمقه حلم جديد  و في ثناياه تأهب للدخول إلى عالم متغير  و قابل لكل أنواع الانفجار. شعبنا الأصيل ليس بعيدا عما يجري من حيف  و ظلم في أرض قدسها اجداده  و لا زال هو  و أبناءه  و أحفاده يقدمونها. من يقدر أن يثني مغربيا أو عربيا أو أفريقيا مسلما أو مسيحيا  أو اسيويا عن رغبته في معانقة عبق التاريخ في أولى القبلتين  و ثالث الحرمين. من ذلك السياسي أو المسؤول المتعود على المفاوضات في الأمم المتحدة الذي له القدرة على أن يقنع أحدا من شعبه على السلام يقتضي التخلي عن الأرض  و العرض.

أمام  ما يجري ليس في غزة فقط بل في كل أرجاء الدول الإسلامية  و العربية  و المسيحية  و البوذية  و اللاادرية  و الزرادشتية  و البهائية و غيرها من المذاهب  و الملل، أكاد اتجاهل أرقام  المديونية التي تجاوزت إجمالي الناتج الداخلي للبلاد  و كل ما جاء من تدابير جباءية ستضرب في الصفر كل ما قيل   ويقال عن الدولة الإجتماعية. هذه الدولة ليست مشروعين كبيرين فقط.  الدعم المباشر  و التغطية الإجتماعية هي خطوة أولى مهمة  و لنها غير كافية لردم هوة الفوارق الإجتماعية و المجالية.  القصف متواصل على غزة  و الغرب بكل قواه يدعم الدمار الصهيوني.  هذا الدمار سيصيب الجميع  و قد يضرب في الصميم الأسواق الطاقية  و المالية  و الإقتصادية و ستصبح غزة تلك القشة التي قصمت ظهر البعير. 

العمى أصاب من يمتلكون أدوات  و مفاتيح سوق القوة  و النار بأشكالها الصناعية  و المالية.  يظنون أنهم في قلاع آمنة إلى  الأبد. المتباهون بالسيطرة على الأرقام  و فهم كل شيء في المالية العمومية قليلا ما يعرفون الواقع  المعيشي للمواطنين.  إرفع الضريبية على القيمة المضافة كما تشاء أيها الوزير المتمكن  و إرفع دعم الدولة للأغنياء جدا في الصناعة  و التجارة  و البنوك  و العقار  و ” زد الشحمة في …جسم المعلوف” و استعد لتبرير ضعف أثر الإستثمار على النمو  و الدخل الفردي  و البطالة رغم كل الهدايا و الكرم الكبير. و الأكيد أن  غيرك سيأتي غدا ليبرر فشل الجهد المالي العمومي بسبب الحرب على غزة  و هروب الإسرائيلي إلى  أوروبا  و تهاوي الإقتصاد المالي الذي لا علاقة له بالإنتاج لأنه مجموع آليات  السمسرة في منتوجات مالية لا مقابل لها في الواقع الإقتصادي المبني على طن من القمح  و برميل من البترول  و جيكاواط من الطاقة  و مليون شاحنة  و كيلومترات من الطرق  و عشرات من السدود  و المطارات. 

لقد أصبح القرار المالي كقرار خوض الحروب.  حساب خسائر الأرواح  و البنيات أقل أهمية من حساب أرباح الصناعات العسكرية  و مافيا صناعة الأدوية عبر العالم.  و نحن في بلدنا الآمن لا زلنا نجرب السياسات في مجال السكن  و أغلب أصحاب الثروات اغتنوا عبر سوء تدبير المال العام  و العقار العام  و الضعف العام لأنظمة المحاسبة الإدارية  و المتابعة القضائية   و البرلمانية. لقد بدأ السماسرة يشحدون السكاكين لكي يحققوا أكبر المكاسب على حساب القوة الشرائية لمن له طموح  و لا قدرة له على مواجهة مافيا تنتهك قواعد الشفافية في سوق العقار.  الحكومة تتفرج على مقاولين يبتزون المواطنين  و ييفرضون عليهم ” النوار” في حضور موثق يدير وجهه وقت استحلال أرزاق ذوي الدخل المحدود.  مقاول جاء إلى  مراكش  و فتح مكاتب مفككة البناء  و جهزها بالتكيف  و بأحدث تكنولوجيا بث الصوت  و برمجها على القرآن الكريم  و أكثر من حرق ” العود” و انبرى للكذب على الناس.  و انتهى به المقام إلى  تهديد من يطالبه بحقوقه بعد أن  تأخرت  الأشغال.  اضطر الكثير من الناس أن يطلبوا ما دفعوا من أموال.  و الحصيلة أن  المقاول بنى عمارات بأموال الناس  و باعها في الأخير لمن يدفع أكثر.  قانون المالية لا يضمن أي شيء لأن  الحكومة ضعيفة أمام سلطة اللوبي العقاري. يشعر الكثيرون بالظلم  و بالاستصغار  و بغياب من يحميهم أمام الدينصورات التي يصل عدد منها إلى  البرلمان. 

لن اقارن بين ضحايا العدوان على غزة مع ضحايا العدوان على أموال الطامحين في سكن لأن الحرب تبيد الأرواح  و تتسبب في جراح لن تندمل ما دام العدو موجودا. ضحايا مافيات العقار أمامهم أمل في دولتهم  و هذا مجال أساسي لإعطاء مدلول حقيقي للدولة الإجتماعية.  هذه الأخيرة ليست مجرد صندوق للصرف على حاجيات تهم من هم في وضعية هشاشة.  إنها أكبر  من ذلك بكثير. الدولة الإجتماعية توجد في قلب الديمقراطية  و العدالة  و المساواة.  الدولة الإجتماعية تحمي المواطن بقوة مؤسساتها  و لا تسكت عن كل حيف أصابه.  قد يقول قائل أن  اللجوء إلى القضاء أقصر السبل إلى العدالة، لكني أقول أن تحصين التدبير العام بالرقابة  و الزجر  و التحييد هو الأساس قبل اللجوء إلى القاضي الذي لا يمتلك السيطرة على الزمن في ظل تضخم الملفات.

قانون المالية عنوان لدولة لها مؤسسات و قوانين  و قانون الغاب  المدعم من طرف الإمبريالية أسس كل القواعد له  و ليس لغيره من ” الكائنات الحيوانية “التي يتم قتلها  و تدميرها دون محاسبة.  و لمن يثقون في الخطاب الدولي على الحقوق، يجب القول أن كل المحاكم الجنائية الدولية انشأت لغير الامريكيين  و غير مواطني كثير من الدول الغربية. حوكم النازيون بعد هزيمتهم بعد الحرب العالمية الثانية  و أستمرت المحاكم ضد من اختفى  و لو كان  بلغ التسعين من عمره.  لم يحاكم أي مسؤول أمريكي أو  أوروبي عن جراءم ارتكبت في العراق  و ليبيا  و الفيتنام   و غيرها.

قانون المالية هو لحظة تاريخية لدعم اقتصاد المعرفة  و تجهيز أطر بالآلاف في كل المجالات.  الحروب اليوم تديرها، في الغالب، الادمغة التي تسيطر على أنظمة المعلومات  و الاطر الطبية التي تهب لإنقاذ ضحايا من يعيدون إنتاج الهمجية النازية  و التي تسببت في محرقة كان ضحاياها مدنيون عزل.

أخترت أن  أبتعد قليلا عن تحليل أرقام قانون المالية  و اتجاهل عن عمد تسميته بمشروع قانون. أعمال لجنة المالية تظل شكلية لأن قرار الحكومة خط أحمر بالنسبة لبرلمانيي الأغلبية.  و كل مخالف يطرد من الصفوف  و قد ترفع عنه حماية لإبطاء مسطرة متابعة أو محاسبة.  و لذلك ترفع الأيادي مشيرة إلى رفض التعديلات التي  ترفضها  الحكومة  و قبول ما قررت قبوله.  و يمر القانون  و يتغزل فيه من ابتلانا ألله بكثيرهم في مؤسساتنا. المهم أن  يرضى على الحزب من يمولوه  و أن يترك الباقي للدولة الإجتماعية التي لن تولد قبل المخاض. و في إنتظار  كل ما يجري، تلد الأرض في كل بقاعها طفلات  و أطفال يرضعون من  صدرها الذي يقول الحقيقة عن الجاني  و المجني عليه. 

رفض الملك الراحل محمد الخامس التوقيع على أية وثيقة ضد شعبه  و أرضه.  قرر التحالف مع الحركة الوطنية  و فضل مغادرة القصر الملكي إلى منفى بعيد في غشت 1953. تجاوب معه الوطنيون بالتضحية فقال ” ما ضاع حق من  وراءه طالب”. تبددت الغيوم بالارادة   و لا زال الشعب يحتفل بثورة الملك  و الشعب . و بنفس هذا الإيمان ستنتصر إرادة النصر  و العدالة الفلسطينية  و القيم  الحضارية و الإنسانية على تواطؤ الغرب  و طغيان الصهيونية.  و سؤال اخير: هل هناك ضريبة جديدة بإسم فلسطين يؤديها كل مغربي حسب قدراته.  لم أجد شيئا في هذا المجال  و أتمنى أن يسارع أصحاب  القرار الاغلبي لتنبيه أغلبيتهم الحكومية.