مصطفى المنوزي
صحيحٌ أن من واجب الملك، باعتباره رئيس الدولة، أن يوجّه التهاني والتعازي ويعبّر عن تضامنه مع الأشخاص والمؤسسات، كلٌّ حسب المقام والظرف، وهو حقٌّ دستوريٌّ وأخلاقيٌّ في الآن نفسه. وحقا أن هناك بعض الأحزاب تتراشق فيما بينها بالتزيد حول من ترضى عنه الدولة وموظفيها أكثر ، رغم وضوح الدستور في هذا المجال ، بخلاف الحقيقة الإعلامية والتي تكرس بدع غير دستورية ك ” حكومة صاحب الجلالة مقابل معارضة صاحب الجلالة ” ، وهو تراشق لا يرقى حتى إلى درجة الصراع حول” من يصبن أحسن ” ، في سياق التنافس الإنتخابي والإستهلاك الإعلامي
غير أن المثير للاستغراب هو رهان بعض الأطراف على الرسائل الملكية باعتبارها مصدرًا لبناء الشرعية أو تثبيتها، في حين أن الامتنان واجبٌ تجاه الملك والتقديرَ لمشاعره، لكن الرضى الحقيقي والمطلوب هو ذاك المؤسَّس على مشروعية المؤتمر وإجراءاته، لا على التأويلات الرمزية للرسائل أو الطقوس العرفية التي تحاول أن تُضفي على الفعل السياسي طابعًا تقديسيًّا يتجاوز حدوده المؤسساتي؛ وبغض النظر عن وصم عدم الإستقبال كعلانة كاملة ؛ .فالرسائل الملكية، في جوهرها، تعبّر عن حضور رمزي يهدف إلى ترسيخ التواصل الدستوري بين الملك والمؤسسات، وليس إلى إنتاج شرعية بديلة أو تفويض استثنائي لأي جهة. إنّها لحظة تواصل سياسي ذات بعد رمزي وأخلاقي، لا يمكن أن تتحول إلى صكٍّ للرضى أو شرعية موازية للشرعية التنظيمية والديمقراطية.
إنّ الالتباس الحاصل بين الرمزية الملكية والشرعية الحزبية يكشف استمرار بعض النزعات التبجيلية التي تنتمي إلى منطق الولاء لا إلى منطق المسؤولية؛ فحين تُستعمل الرسائل الملكية كأداة لإضفاء المشروعية على مؤتمرات أو قيادات حزبية، يتحول الفعل الحزبي من مجالٍ للتداول والاختيار إلى فضاءٍ لتلقّي الإشارات والتبرير والإطراء المخادع ، فيتراجع المعنى الديمقراطي لصالح منطق العرف والرمز.
ومن هنا، فإنّ الرهان الحقيقي ينبغي أن يكون على إعادة تأهيل الثقافة السياسية، بما يضمن التمييز بين مقام المؤسسة الملكية باعتبارها ضامنة لوحدة الدولة واستمرارها، ومقام الأحزاب باعتبارها وسائط تمثيلية تخضع للمحاسبة والاختيار. وحده هذا التمييز يسمح بترسيخ توازن صحي بين الشرعية الرمزية للدولة والشرعية الديمقراطية للمؤسسات.
وفي هذا الأفق، تبرز الحاجة إلى ترسيخ ما يمكن تسميته بـ الحوكمة الرمزية، أي القدرة على تدبير العلاقة بين الرمزي والسياسي، بين ما هو سيادي وما هو تمثيلي، في احترام تامٍّ لمبدأ استقلالية القرار هنا وهناك. فالحوكمة الرمزية ليست تملّقًا للسلطة الرمزية، بل هي تنظيم للعلاقة بها على أساس الاعتراف المتبادل والمسافة المؤسِّسة.
والمهم في آخر التحليل، أن نُكرّس ثقافة المسافة الضرورية المنبثقة من مبدأ استقلالية القرار، بعيدًا عن منطق الرياء والمجاملات الزائفة، لأن السياسة التي تُدار بالعواطف الرمزية دون حدود مؤسسية تتحوّل بسهولة إلى طقس ولاء، لا إلى فعل
في النهاية، لا تُقاس وجاهة الدولة بعلوّ رموزها ولا بسطوة إشاراتها، بل بقدرتها على جعل الرمزية في خدمة المؤسسية، لا العكس. فحين تَحكم العقولَ ثقافةُ التمييز لا التبجيل، وحين يُدار الاعتراف بالمسافة لا بالولاء، تصبح السياسة فعلَ مسؤولية لا طقسَ امتثال. إنّ الملَكية القوية هي التي تُحصِّن استقلال المؤسسات، والأحزاب الناضجة هي التي تُبقي الاحترام في حدود الدستور لا في فضاءات العرف.
وهكذا، لا يُقاس الوفاء في النظام السياسي بمدى الانحناء أمام الرموز، بل بمدى الإسهام في ترشيدها عقلانيًّا وأخلاقيًّا، في سبيل وطنٍ يُحكم بالعقل لا بالإشارة، وبالمعنى لا بالمجاز.