بين التحفيز المشروع والترف المؤسسي او عقلنة الإحتفاء ودمقرطة التكريم
(من وحي تكريم الرياضيين والفنانين والكفاءات الوطنية )
مصطفى المنوزي
لا خلاف في كون تشجيع الطاقات الشابة واجبًا وطنيًا واستثمارًا في المستقبل، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالرياضة التي تشكل مدرسةً للتربية على الانضباط وروح الفريق. غير أن التحفيز لا يجب أن يتحول إلى امتيازٍ ريعيٍ أو استعراضٍ سياسيٍ أو إعلاميٍ يفرغ الفعل التربوي من جوهره. ولذلك فإن المنح المخصصة للاعبين أقل من عشرين سنة ينبغي أن تخضع، شأنها شأن باقي النفقات العمومية، لمبدأي المساواة والشفافية، كما نصّ عليهما الدستور في فصله الأول المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، وفي فصوله التي تكرّس الحكامة الجيدة وربط المال العام بالمصلحة العامة. فالتحفيز غير المتوازن أو المبالغ فيه لا يعزز روح المواطنة، بل قد يغذي الإحساس بالحيف وغياب العدالة بين فئات المجتمع، خاصة حين يرى الشباب في مجالات أخرى (العلم، الفن، التطوع، أو البحث العلمي) أن مجهوداتهم لا تلقى التقدير ذاته.
وفي سياق دستور تكافؤ الفرص والمساواة في الاحتفاء والتكريم، وجب تحفيز المؤسسات العمومية والهيئات الدستورية والترابية على تفعيل إحدى أقوى توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، والمتمثلة في حفظ الذاكرة الجماعية عبر إطلاق أسماء ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان على المرافق والشوارع العمومية ؛ لأن ذلك هو الاحتفاء الأسمى بالمواطنة والكرامة الإنسانية، لأنه يعيد الاعتبار للذاكرة كمصدر للمعنى، وللعدالة الرمزية كرافعة للإنصاف التاريخي، ويكرس مبدأ المساواة في التكريم بين من ساهم في صنع المجد الرياضي، ومن ضحى في سبيل الكرامة والحرية والحق في الحياة.
إنّ الترشيد في النفقات ليس بُخلاً وطنياً، بل حكمة مؤسساتية، لأنّ المال العام ليس أداة للمجاملة أو للعاطفة، بل رافعة للتوازن الاجتماعي والإنصاف بين الفئات والمجالات. ومن ثَمّ، فالنقد المسؤول لهذه الممارسات لا يخرج عن روح الوطنية، بل هو تعبير عن وطنية نقدية تؤمن بأنّ بناء المستقبل يمر عبر مساءلة طرق الصرف قبل الاحتفاء بنتائج الصرف.
وفي منظور التفكير النقدي التوقعي، فإنّ معالجة هذه الاختلالات لا تقتصر على اللحظة الراهنة، بل تمتد إلى استباق آثارها التربوية والمجتمعية، إذ إنّ ترسيخ ثقافة الاستحقاق منذ المراحل المبكرة يُسهم في بناء أجيالٍ تعي أنّ القيمة لا تُقاس بما يُمنح، بل بما يُنجز ويُقدَّم للمجتمع من عطاء مستدام. وبهذا المعنى، تصبح العدالة في توزيع المنح جزءًا من عدالة انتقالية توقعية، تُنصف الجهد وتحرر المعنى من أسر الامتيازات الظرفية، لتعيد الاعتبار لقيمة العمل والجدوى والإنصاف.
من هنا فإنّ تفعيل هذا الأفق يتطلب من الحكومة والمجالس الترابية والمؤسسات العمومية اعتماد ميثاق وطني موحد للمنح والتكريمات، يقوم على العدالة التشاركية، والشفافية، والتقييم المستمر، مع توجيه جزء من هذه الاعتمادات إلى برامج إعداد وتأهيل الشباب في المجالات العلمية والثقافية والحقوقية، ضمانًا لتوازن رمزي ومادي في تحفيز الكفاءات، وترسيخًا لعدالةٍ توقّعية تُنصف الحاضر وتستشرف المستقبل.
