آخر الأخبار

اوراق من ساحة المقاومة المغربية لعبد السلام الجبلي

لكنني لم أعره اهتماماً ، متظاهرا بأنني لم أفهم شيئاً مما خاطبني به ، حتى لا أثير شبهة بشأن هندامي . والحصيلة أنه اقتحم السيارة وجرني بعنف من ركبتي ، وألقى بي على الأرض ، خارجا فانكمشت بعيد عنهم ، وقعدت قعود معتوه يحصي النجوم في حجره ، وبقيت أراقبهم من طرف خفي . والواقع أنني تقمصت تلك الألاعيب لأموه عن مسدس كنت أتابطه تحت ملابسي ، فلم يأبهوا بي ولا بما كنت أحمله . فتشوا السيارة وتأكدوا من محتوياتها ، ولم يجدوا إلا أدوات التخييم ، وبعض أواني الطهو ، ومن حسن حظنا أن المنطقة الحدودية بين الترابين ، القروي والحضري ، كانت تحت سلطة الدرك ، الشيء الذي سمح للدركيين أن يفرضوا قرارهم على رجال الأمن ، ولذلك سمحوا لنا بالمرور . بعدما اقتربنا من المجال الحضري ، اقترحت على الزرقطوني أن نفترق ، وندخل إلى الدار البيضاء فرادى ، ونلتقي فيما بعد . قمنا بتقييم للحصيلة مع الزرقطوني ، فبدأت تتبلور لدينا فكرة تقوية النضال ، من خلال أساليب أخرى ، أكثر فعالية . في هذه الأثناء طرحت بعض عناصر القوة الاحتياطية فكرة تكوينها للنواة الأولى لما سيسمى بجيش التحرير . كانت هذه النواة الأولى لتأسيس جيش التحرير قد ترعرعت في الدار البيضاء . طرحت علينا هذه المسألة ، فكان محمد الزرقطوني أكثر المتحمسين لها . وعلى هامشها بدأت تتبلور كيفية التنظيم ، على المستوى الوطني ، وإمكانية تقسيمه إلى مناطق . في هذا السياق اقترح الإخوان ، في التنظيم ، تكليف محمد الزرقطوني بمنطقة الشمال ، واستغلال العناصر التي كانت قد شاركت في حرب الريف ، ودفع مدينة فاس إلى الانخراط ، بفعالية ، في هذا العمل النضالي ، لمكانتها التاريخية ، والعلمية مع اعتبار هذا التكليف فرصة كذلك لإبعاده عن منطقة الدار البيضاء ، إذ باتت المراقبة تشتد عليه فيها ، يوما بعد آخر .

كنا ندرك أن الزرقطوني عنصر فعال ، في المقاومة المغربية ، وأنه مستهدف من لدن الاستعلامات الفرنسية ؛ لذا فقد كنا نعمل ما في وسعنا المعلومات الخطيرة ، التي كان يتوفر عليها . كي نجنبه الوقوع في قبضتها ، حتى لا يصلوا إلى تنظيمنا ، من خلال أما بالنسبة إلى منطقة الجنوب ، وبحكم أنني كنت قد بدأت التنظيم أن أتكلف بتدبير العمل النضالي في هذه المنطقة الاشتغال فيها ، منذ قيامي بمحاولة اغتيال الباشا بنحيون ، فقد ارتأى كان إعداد جيش التحرير ، في منطقة الجنوب ، يتطلب خطة عمل متقنة ، خصوصا وأن المنطقة كانت مراقبة بشدة من لدن المستعمر . وكانت نقط المراقبة محكمة في جميع الأبواب ، ناهيك عن المراقبة لكيلا يتسرب إلى المنطقة من لا ينحدر منها . الصارمة للأوراق الشخصية للتأكد من هوية الأشخاص ، ووسائل النقل كان قدومي ، في المرة الأولى ، إلى الجنوب لأجل الاطلاع على طريقة العمل الإداري ، والأمني ، وعلى طرق المراقبة في المنطقة ؛ وهو شيء مهم ، في العمل النضالي ، لمعرفة الإمكانيات المتوفرة للتحرك هناك . سافرت مع بولحيا إلى أكادير ، مع العلم أن المجال الترابي فيها شاسع يمتد إلى حدود العيون ، وكان علي أن أتعرف على كل تلك المناطق لأكون نواة جيش التحرير ، في الجنوب . الشيء الإيجابي الوحيد ، الذي كان في صالحي ، تمثل في أنني كنت قد لامست بعض جيوب ذلك المجال أثناء القيام بعملية بتحيون ، وربطت فيه علاقات مع سيدي مومو ، وإبراهيم خباش . سيدي مومو هذا ، كان معروفا في المنطقة بوصفه عضوا في الحزب ، لذلك كنت أتجنبه ، شأنه شأن جميع العناصر المعروفة ، ولا أتصل به إلا بطريقة غير مباشرة ، التزاما مني بأخذ الاحتياط اللازم . وحتى لا ينكشف عملنا قررنا أن نقوم باتصالات أثناء المواسم ، لأنها هي الفرصة المتاحة لاستقطاب سكان عدة جهات من المنطقة . وهو ما كان يسمح لنا بالاتصال بالعناصر ، التي احتجنا إليها ، مع العلم أنه تعذر علينا التنقل ، في جميع الجهات ، بسبب محدودية إمكانيات النقل من جهة ، وشساعة المجال من جهة ثانية ؛ زد على ذلك وعورة المسالك ، لأن المنطقة جبلية ، والتجمعات السكنية فيها متفرقة . ولكي نتغلب على كل ذلك كنا نترصد التفاف السكان حول المواسم لنربط الاتصال بالعناصر التي تتوافد عليها . ففي موسم بتزنيت ، هو موسم سيدي إحماد أوموسى ، رافقنا سيدي مومو ، برغم إبداء تحفظي من ذلك ؛ إذ أكدت لبولحيا أن وجوده معنا سيتسبب في لفت الأنظار إلينا ، لكنه لم يول اهتماما للأمر . ذهبنا جميعا إلى الموسم ، الذي انفض مبكرا ، نتيجة هبوب عاصفة قوية ، وكان أن لاحظ بعض أعوان الإدارة أن سيدي مومو مصاحب بشخصين من خارج المنطقة ، لا ينتميان إلى تزنيت ، ولا إلى نواحيها . الشيء الذي نتج عنه تشديد الحراسة أثناء دخولنا إلى هذه المدينة ، فأحسست إذا كأن عيونا تقتفي آثارنا . كنت شديد الانتباه حيال مثل هذه الأمور . فارقنا سيدي مومو ، وبقيت مع بولحيا ، فلاحظت أن اقتفاء أثرنا ما زال مستمرا ، فطلبت منه أن ندخل إلى أول دار يعرفها : لأن بولحيا يعرف تيزنيت جيدا . ولما عرف دار طباخ القبطان ، في هذه المدينة ، ويسمى محماد ، وهو ” امخزني ” ، قرع بابه ، فاستضافنا ، واحتفى بنا . وككل الدور ، هناك ، كان مدخل البيت مخصصا لربط البهائم . كان أول شيء اهتممت به ، تبعا لعادتي ، هو استطلاع الدار ، ومعاينه غرفها ، ومداخلها . طلبت من بولحيا أن يبقى في مدخل البيت ، كما طلبت من صاحبه أن يعطيني المفتاح ، لكي احتفظ به ، واشترطت عليه أن يمنع أي أحد من الدخول والخروج من منزله حتى نغادره ، امتثل محماد لطلباتي ، دون أي اعتراض . ومن الطبيعي أنه لا يمكن للمرء ، في مثل هذه الحالات أن ينام مرتاحا ، زد على ذلك أنني قليل النوم منذ صغر سني . بقيت مستيقظا يقظا إلى حدود أذان الفجر ، فاقترحت على بولحيا فوهة تسمى باب ” اتقب ” . توجهنا منه إلى ” ثلاثاء أخصاص ” ، راجلين ، لعدم مغادرة ذاك البيت ، وواصلنا طريقنا حتى سور المدينة ، الذي كانت به توفر وسيلة نقل ، نظرا لانعدام أي حركة اقتصادية في هذا الاتجاه

وصلنا إلى السوق في العشي ، لأن المسافة ربما كانت تقارب الأربعين كيلومترا . إلى وبما أن الولوج إلى جميع الجهات والأماكن كان خاضعاً مراقبة صارمة ، ولأجل تجنب هذه المشاكل ، كنا نبحث عن مداخل غير معروفة . كانت لنا علاقة ، في ” ثلاثاء أخصاص ” ، مع بعض المخازنية ، الذين تعرفنا على أسمائهم من قبل . كانوا من بين العناصر المعدة لربط الاتصال . عقدنا أول اجتماع في دار رئيس القوة الاحتياطية لثلاثاء أخصاص حيث مكتبه . تحدثنا مع المجموعة ، بعدما قدم كل فرد نفسه ، ودرجة استعداده للانخراط في هذا العمل . إذاك تأكدت من استعدادهم ، فقدمت لهم فكرة تكوين نواة جيش التحرير ، وألححت على أن من واجبهم أن يكونوا متأهبين ، ومستعدين للقيام بأي عمل يحدد لهم فيما بعد ، حتى ولو تعلق الأمر بالقيام بعمليات ضد الإدارة والجيش الفرنسيين ، أو ضد الفرنسيين عامة . أما الخطة فسيكشف عنها ، في المرحلة المقبلة . بعد الانتهاء من هذا الاتفاق ، أدت العناصر اليمين على المصحف الكريم ، على أنهم لن يبوحوا بأي شيء ، وأنهم سيبقون محافظين على هذا العهد إلى حين الاتصال بهم قصد القيام بما يكلفون به ، ومن ” ثلاثاء أخصاص ” ، أي بعد هذا الاجتماع المهم ، اتجهنا إلى ” بويزكارن ” ، فكانت الرحلة أطول . لم يقتصر الأمر على هاتين المحطتين ، فقط ، بل كنا نتصل بجميع العناصر ، في كل مكان ، في تافراوت ، وفي آنزي ، وتاغجيجت ، وفي إفران ، وفي فم لحسن ، وفي إيموكار ( ثلاث ن يعقوب ) ، وكلميم ، وفي طاطا حيث أقمت في صومعة الجامع ، وفي كلميمة ، وفي أماكن أخرى كنا نتصل بالمخازنية لننظم نواة جيش التحرير .