آخر الأخبار

الهدف في القيادة الأكاديمية: سرّ الصعود إلى القمة والحفاظ عليها

محمد محاسن

توطئة

ليس من الصائب اعتبار القيادة الأكاديمية مجرد موقع أو صفة إدارية، بل إنها قبل ذلك وبعده قدرة على الصعود المتواصل، وعلى الحفاظ على المكانة والتميّز مهما تبدلت السياقات وتغيرت الظروف.

في قلب هذا الصعود، يوجد الهدف: ذلك المفهوم البسيط في تعريفه، العميق في أثره، الذي يميز بين قائد يصنع الطريق وقائد يكتفي بالسير فيه. فالهدف ليس فكرة عابرة، ولا خطة تُكتب في بداية السنة. إنه محرك الصعود، والضامن للاستمرار، والجدار الواقي من التراخي والخمول والركون إلى المألوف.

أولا: الهدف… حجر الأساس في الصعود والبقاء

إن القائد الأكاديمي الذي يعتلي القمة ويحافظ على موقعه ليس هو الأكثر خبرة فقط، ولا الأكثر موهبة بالضرورة، بل هو ذلك الذي يحافظ على وضوح أهدافه، ويعيد صياغتها باستمرار، ويجعل منها معياراً يومياً يُهتدى به. فالهدف يمنح المعنى، والمعنى يولد الالتزام، والالتزام يصنع الارتقاء. ومن لا هدف له، لا صعود له، وإن صعدَ، فإن ارتقاءه لن يدوم طويلاً.

ثانيا: عقد يومي مع الذات: لا صباح بلا هدف

من أعلى درجات النضج القيادي أن يتعاقد القائد مع نفسه على ألا يفتح عينيه كل صباح إلا وقد حدّد هدفاً ليومه. قد يكون الهدف صغيراً أو كبيراً، داخلياً أو خارجياً، لكن وجوده في حد ذاته شرط حيوي لبقاء الشعلة مضاءة. فالراحة إذا ما زادت عن حدّها تحولت إلى خمول، والخمول يولّد مسايرة، والمسايرة تقتل الإرادة، وغياب الإرادة يطفئ عظمة القائد مهما كان رصيده من المواهب. فالقائد الذي يصحو بلا هدف كمن يفقد بوصلته في الحياة فيعبرها تائها بلا اتجاه.

ثالثا: المثابرة والانضباط أهم من الموهبة

كثيرون هم الذين يملكون الموهبة، وقليلون أولئك الذين يملكون الاستمرارية والمثابرة والانضباط. وهذا ما يجعل التميز قيادياً فناً ومهارة لا مجرد استعداد فطري.

الانضباط هو الجسر بين الأحلام والقمة، والمثابرة هي الوقود الذي يمنع التراجع، والاستمرارية هي السرّ الذي يأخذك أبعد بكثير مما توصل له الموهبة وحدها. فالموهبة تُوقد البداية، لكن الانضباط هو الذي يضمن الوصول.

رابعا: التقدم أهم من الكمال

يبقى الكمال فكرة مثالية مغرية، لكنها غير قابلة للقياس ولا للتحقق بشكل تام. أما التقدم، ولو بدرجات صغيرة، فهو إنجاز واقعي وملموس ومتحقق.

فالقائد الذي يركز على “الكمال” ينتهي غالباً إلى التأجيل أو التردد، بينما القائد الذي يركز على التقدم يصنع النجاح خطوة بعد أخرى وطبقة بعد طبقة. فخطوة صغيرة كل يوم… أفضل بكثير من حلم كامل لا يتحقق يوماً.

خامسا: التميز يولد خارج السرب

لا وجود لقائد حقيقي يتبع ما يتبعه الجميع. فالتميز يولد حين يجرؤ القائد على خوض تجارب لا يقوى الآخرون على خوضها، وحين يغامر في الدروب التي يتجنّبها غيره لأن القيادة لا تُمنح، بل تُنتزع بالجرأة، ومن سار حيث يسير الناس بلغ حيث يبلغ الناس دون أن يتجاوز مداه. أما من خرج عن السرب… فهو الوحيد الذي يوفق في صنع الفرق.

سادسا: العقلية مسبار الصعود أو السقوط

إن عقلية القائد ومنظومة اعتقاداته هي محدد البقاء في القاع أو الصعود إلى الأعلى. فالعقلية المتوازنة المنسجمة، القائمة على الوضوح والثقة والنظرة الاستراتيجية، هي التي تسمح للقائد بأن يحافظ على صلابته مهما اشتدت الضغوط.

أما العقلية المشتتة، المترددة، المشوشة الاعتقادات فتقود صاحبها حتماً إلى المتوسط مهما ملك من وسائل وطاقات.

سابعا: القائد الحقيقي لا يتقاعد

التقاعد لا يعدو كونه مسطرة إدارية، أما القيادة فهي أعمق وأسمى من ذلك بكثير، إنها هويّة ورسالة وميلاد دائم. فالقائد الحقيقي يستمر في حمل رسالته معه ما دام حيّاً، كما أن عطاءه لا ينضب ولا يتوقف ولا ينتهي بتغيير موقع أو منصب، بل يستمر وينتشر ويُخلِّد اسمه بعد الرحيل.

لأن أثر القائد لا يقاس بعدد سنوات العمل، بل بطول ظلّ رسالته عبر الأجيال.

 

عود على بدء

إن القيادة الأكاديمية ليست مساراً عابراً ولا محطة مؤقتة، بل إنها رحلة بناء ذاتي دائم، يتجدد فيها القائد كلما جدّد أهدافه، ويتقوى كلما التزم بخطوات صغيرة لكنها ثابتة في اتجاه القمة. فالهدف الذي يولد كل صباح، والانضباط الذي يشكل الجسر بين الإرادة والإنجاز، والمثابرة التي تروي جذور التميز، كلها عناصر تجعل من القائد شخصية تتجاوز حدود الوظيفة إلى أفق الرسالة.

إن القمة ليست حدثاً، بل حالة ذهنية وسلوكية يصنعها القائد بتفكيره وإيمانه بما يريده، وبقدرته على خوض التجارب التي يتجنبها الآخرون، وباستعداده للارتقاء حتى عندما تبدو الطريق غير ممهدة. ومن هنا يتبين أن العقلية الصافية المتوازنة هي التي تمنح للقائد القدرة على الصمود في مواجهة التحديات، وتضمن له الاستمرار والخلود المعنوي بعد أن يغادر موقعه أو ينتهي مساره الإداري.

فالقيادة الحقيقية تُقاس بعمق الرسالة لا بمدة الخدمة، وبأثر الفعل لا بمستوى المنصب، وبالإنجاز المتجدد لا بلحظة التعيين.  وهكذا يبقى القائد الذي يحمل هدفاً واضحاً كل يوم، ويجعل من الالتزام والجرأة وعلوّ الهمة منهجاً له، قائداً لا يتقاعد، لأن رسالته تمتد بامتداد أثره وتستمر ما دامت أهدافه قادرة على إشعال نور الطريق لمن يأتي بعده.