خلال مناقشة الميزانية الفرعية لقطاع إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، وقفت السيدة الوزيرة فاطمة الزهراء المنصوري أمام نواب الأمة لتستعرض ما سمّته بـ”الإنجازات الكبرى” التي حققتها وزارتها خلال الفترة الحكومية الحالية، وعلى رأسها إخراج 405 وثيقة تعمير، من بينها 49 تصميم تهيئة تهم المدن الكبرى. وبنبرةٍ مفعمة بالافتخار، قدمت الوزيرة هذا الرقم بوصفه دليلاً على كفاءتها ونجاحها في تدبير قطاع يُعتبر من أكثر القطاعات حساسية وتشابكًا مع الاقتصاد الوطني.
لكن الحقيقة، كما يعلم كل من له دراية بتاريخ منظومة التعمير في المغرب، تختلف تمامًا عن الرواية الرسمية التي تحاول الوزيرة ترويجها.
⸻
أولاً: إنجازات تُنسب لغير أصحابها
إن إخراج وثائق التعمير، بما فيها تصاميم التهيئة والتصاميم التوجيهيّة، لم يكن وليد عمل وزارة المنصوري الحالية، بل نتيجة مسار طويل بدأ منذ بداية عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي تبنّى رؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى ضبط العمران وتطوير مناخ الاستثمار.
فجلالته كان السبّاق إلى إبداع نظام رخص الاستثناء في مجال التعمير، كآلية مرنة لتشجيع الاستثمار وجلب رؤوس الأموال في مرحلة كانت فيها وثائق التعمير غائبة أو متجاوزة. لكن، ومع مرور الوقت، وحين لاحظت السلطات العليا انحراف هذه الرخص عن أهدافها الأصلية، جاء القرار الملكي الحكيم بوقف العمل بها، وإلزام الإدارات بتسريع إعداد وثائق التعمير لتأطير الاستثمار ضمن رؤية قانونية واضحة.
بمعنى آخر، إن التسارع في إخراج وثائق التعمير لم يكن مبادرة وزارية شخصية، بل ضرورة مؤسساتية فرضتها توجيهات عليا لحماية التوازن العمراني والشفافية في تدبير الرخص. وبالتالي، فإن أي وزير كان سيُعيّن في هذه المرحلة، كان سيجد نفسه مضطرًا لتسريع المصادقة على الوثائق نفسها، لا لفضلٍ منه، بل لأن رخص الاستثناء لم تعد متاحة.
⸻
ثانيًا: مغالطة “الجيل الجديد” من وثائق التعمير
في مداخلتها، تحدثت السيدة الوزيرة عن ما سمّته بـ”الجيل الجديد” من وثائق التعمير، محاولةً أن تُوهم الرأي العام بأن الوزارة قامت بثورة تنظيمية في هذا المجال. والحال أن ما تصفه بـ”الجيل الجديد” لا يعدو أن يكون تعديلات تقنية تمارسها الإدارات منذ عقود، وتنص عليها المادة 19 من القانون 25.90، التي تسمح بإدخال تغييرات على مشاريع التجزئات والمجموعات السكنية فيما يتعلق بمعامل استعمال الأرض (COS) أو العلو (R+).
هذه المقتضيات القانونية ليست اختراعًا وزاريًا حديثًا، بل جزء من البنية القانونية التي وُضعت منذ عهد وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري، وتم العمل بها بانتظام في كل الحقَب اللاحقة.
وبالتالي، فإن محاولة الوزيرة تقديم هذه الممارسة الإدارية العادية على أنها “جيل جديد” من وثائق التعمير تُعدّ ركوبًا على الموجة الخطابية، وتغليفًا سياسويًا لمسار إداري راسخ لا فضل لها فيه.
⸻
ثالثًا: بين الخطاب والنتائج
ما يغيب عن خطاب السيدة الوزيرة هو جوهر التحديات الحقيقية التي يعرفها القطاع:
• تأخر تحيين القوانين القديمة التي لم تعد تواكب التحولات الديمغرافية والاجتماعية.
• غياب التنسيق بين وزارة التعمير والجماعات الترابية والوكالات الحضرية.
• ضعف الحكامة في تدبير ملفات الاستثمار العقاري.
• البطء في معالجة ملفات طلبات الرخص و عدم احترام الاجال المعمول بها قانونا.
إن التحدي اليوم لا يكمن في عدد الوثائق المصادق عليها، بل في مدى جودة هذه الوثائق وانسجامها مع النمو الحضري المستدام.
خاتمة: مسؤولية الخطاب السياسي
من حق أي وزير أن يفتخر بما أنجز، لكن من واجب المسؤول أن يُنسب الفضل لأهله. فحين يتحول التعمير إلى مادةٍ للدعاية السياسية بدل أن يكون موضوع رؤية حضرية متكاملة، نضيع البوصلة بين من خطط، ومن نفذ، ومن استفاد.
فالسيدة المنصوري لم تُخرج وثائق التعمير بقدرات خارقة، بل وجدت نفسها مضطرة لركب قطارٍ كان يسير بقوة دفع ملكية ومؤسساتية، وضعت أسسه منذ عقدين من الزمن.
ويبقى السؤال الجوهري: متى ستخرج الوزيرة من منطق التهويل إلى منطق الإصلاح الحقيقي؟
