آخر الأخبار

الفنون مرآة الشعوب – فن الملحون أنموذجا –

بقلم : مولاي علي الخاميري

من الصعب جدا أن نقسم الفنون على أساس فئوي عند شعب ، أو شعوب متجانسة ، وإن ادعى أحد حصول ذلك فربما ينبهر بواقع لحظة معينة ، أو بالاستقرار النهائي من ناحية الاحتفال والاهتمام ، كأن نقول مثلا طرب الآلة فن خاص بالفئات الأرستقراطية وبمواصفاتها المحددة ، ونحن نريد فترة النشأة ، والمشاركة في وجود الفنون ، وتطورها من ناحية المضمون ، لا فترة الازدهار والانتشار المؤقتة بتوقيت وبمعطيات محدودة ، فهذا شأن آخر .

نعم سمعت مثل هذه الآراء كثيرا ، وقد رأيت بعض الأصدقاء ممن لهم علم ، ولهم انتساب معين كما يوهمون أنفسهم يتبرمون من فن الملحون خوفا من تلويث مكانتهم الاجتماعية بمعنى الفئة والطبقة ، وإن كانوا في العمق ، وفي الجلسات الخاصة يعترفون بأن الفنون متشابهة من ناحية المصدر والوجود والمضامين .

من يقف من الفنون موقفا فئويا لا يفهم قوانين الكون ، ولا قواعد الفن بصفة عامة ، ولا معنى المجتمع والذوق والتجانس والفكر والثقافة .

لا يمكن أن أفهم فنا مغربيا ينتشر ويزدهر في ناحية جغرافية معينة تتكون كلها من الطبقات العليا ، أو الطبقات السفلى ، ولا يمكن لإنجازاته الفنية ولمضامينه ، ولتأثيره أن يقف عند حدود هذه الفئة ، أو تلك ، فمسألة الميول والإعجاب والفهم والإحساس هي مثل الوجود في حد ذاته ، تتحكم فيها أمور الفطرة والغريزة أكثر من قضية الانتماء الفئوي المكتسب بمجهودات واقعية ، تتماشى مع فسيفساء التركيب المجتمعي حسب النظرة البشرية في كل العصور .

ولهذا يطرح مصطلح ( الشعبي أو الشعبية ) بمعناه الفني إشكالا غير معين بضبط مستقر من ناحية التفسير والتحليل ، هل المصطلح المذكور يعني منتوج الطبقات الدونية فقط ، وهل يعني أعمال الجماهير التي تعبر بعفوية وتلقائية عن اهتماماتها التي تتسمى بالشعبية ، وهل طابع الكَمِّ هو المهم ، بحيث كلما كان فعل للأكثرية يصح لنا أن نطلق عليه ذلك الاسم ، وهل المضمون والزمان والمكان…… تدخل كلها في المُحَدِّدَات الأصيلة لتشكيل معنى الشعبية ؟ .

كل هذه الآراء مجتمعة ، أو مجزأة ممكنة ولكن لن تستقيم في النهاية على مفهوم قار بمواصفات معلومة ، وهذا من الأسباب الأساسية التي خلقت البلبلة في الفكر الإنساني ، وجعلت بعض آرائه في الأخير تخرج من دائرة العلم والفكر إلى دائرة الأهواء والتزييف ، والتعصب الفارغ من كل دليل مقنع .

فن الملحون للأسف الشديد يتجلى فيه هذا الوضع المقيت بظهور فظيع جدا ، فالكثير من الناس يجهلون مضامينه ، ولو اطلعوا عليها لغيروا مواقفهم من لحظات الالتقاء الأولية ، يقولون عنه إنه فن شعبي بالمعنى القدحي ، وينفرون من مجالاته خوفا على أنفسهم من العدوى ، وهي خصلة متفشية أكثر في الطبقات الدنيا ، لأنهم يحاولون بالابتعاد عن كل ما هو شعبي أن يترقوا في سُلَّمِ فئات المجتمع المعتبرة في نظرهم ، وكثيرا ما رأيت شبانا من الفئات الفقيرة وصلوا بمؤهلاتهم العقلية إلى مراتب عليا من المجتمع على صعيد المسؤوليات ، والمحصول المادي ، فتنكروا مباشرة لماضيهم وأصدقائهم ، بل وعائلاتهم ، وميولاتهم الفنية .

أن تُبنى المواقف من شعر الملحون على أسس فئوية بالمعنى القدحي فهذا أعتبره حمقا ، وجهلَا بطبيعة الإنسان ، وبقوانين الكون ، وقواعد المجتمع الذي يعيش بطريقة حية ، مرتبة على معاني التكامل والاختلاط ، والتفاعل ، وتغيير المنطق المتحكم من عصر إلى آخر ليبقى التوازن مسيطرا على معاني الكون الوجودية في كل شيء ، وفي مقدمة كل ذلك مسألة الفنون ، والميول الغرائزي للإنسان بعيدا عن الانتماء الطبقي المشاهد .

وإذا عدنا إلى شعر الملحون سنلاحظ أن نصوصه تدحض كثيرا مما لصق بالشعر المذكور ، ولهذا كنت أنادي دائما بالانطلاق من النصوص في مقارعة الخصوم ، وتقديم الملحون للقراء على الصيغة الفنية والفكرية الحقيقية ، وإثبات أنه فن تجري في أوصاله كل معالم المجتمع المغربي بفئاته وهمومه وأحزانه وأحلامه ، وأن المُولَعِين والمهتمين به هم من كل الفئات المغربية ومن جميع عصور الزمن المغربي المنتشر ، ففيهم حسب علم السِيَر والتراجم الفقيه ، والمُحتَسِب ، والعالم ، والملك ، والأمير ، والمثقف وطبعا الحرفي……

وعلى صعيد المضامين فيه من جمال التصوير ، وروعة البناء ، وحبكة التركيب ، وصفاء التشخيص ، وسمو اللفظ ، وإتقان الأسلوب ، وتجويده البلاغي والبياني ، وتنوع المواضيع حسب تمثلات الحياة الواقعية ، وقوة التأثير والإقناع مالا يمكن أن لا يراه صاحب ذوق سليم ، وفطرة فنية متقدة ، وقدرة فكرية ، وميول للحُسن والإبداع ، بل فيه من حقائق المغرب ووقائعه الشيء الكثير ، وفيه من الخيال والابتكار الفني المؤسس على معاني الحياة الإيجابية والسلبية عند المغاربة ما لا حصر له من أحداث وتاريخ ومحتوى متنوع ، وفيه ذخيرة مهمة من معاني الاعتقاد ، والتعلق بالله تعالى ، وحب المصطفى عليه السلام وآله الأطهار ، والصلحاء ، وأهل الخير عامة على عادة أهل المغرب في التبين والاعتدال ، وفيه مواضيع العشق والمرأة والجمال ، والطبيعة ، والسجال الفكاهي ، وتفاصيل المطبخ ، وأصناف الأكل ، والتجاذب الفكري ، ومفهوم الحقوق والواجبات ، وتناقضات القديم والجديد ، والدعوة إلى الخير والنبل ، والحرص على تجاوز العقبات ، والبحث عن إنسانية الإنسان ، وتحصيل النجاح ، وتطوير المجتمع ، وطلب التقدم ، ومجابهة الشوائب والموانع ، ونشدان التجديد والاجتهاد…..

وهذه هي طبيعة كل الفنون ، وطبيعة الاهتمام المجتمعي بفن الملحون ، لا يمكن أن يستقر في يد فئة واحدة ، ولا يمكن أن يعتني بواجهة واحدة من حياة شعب او أمة ، وإلا وقع تناقض كبير ، وخلل معيب في نظام الكون بسبب أن التنويع في مكونات المجتمع وأذواقه المختلفة يجب أن يشكل الأساس الذي ينبني عليه محتوى الفنون الأصيلة .

وفي داخل حضيرة الملحون سنلاحظ وجود هذه الإشكالية بحمولتها وتأثيرها ، فبالإضافة إلى أنها تُتَخذ وسيلة لهمز فن الملحون من طرف الخصوم إلا أنها فرقت المشتغلين به سواء كانوا فرادى أو جمعيات : فبعض هؤلاء رأى في تبعيد فن الملحون عن الأوساط الشعبية ، وإشاعته بين الطبقات العالية ماديا ومعنويا سبيلا ناجحا لخدمة فن الملحون ، وبعضهم حاول أن ينظف شعر الملحون من قصص وحكايات من نسج بيئته حتى ولو كانت صحيحة ، والسبب أنها تدل في نظره على ملمح شعبي لا يستقيم مع العقل ، ولا مع ذوق الفئات المثقفة .

إن شعر الملحون يشبه كل الفنون الأخرى في مسألة الوجود والمضمون ، ولاعيب في كونه يضم الأمي الموهوب ، والعالم ، والمثقف ، ولا حرج في كون بعض حكاياته وقصصه تلامس العمق الشعبي في الإنسان بطريقة مقبولة ، ودالة على مختلف أنواع التفكير المبثوثة على خرائطه العقلية والنفسية والأسطورية ، وأعتبر ذلك مفخرة ودليلا على الاهتمام والرواج ، والإحاطة بأحوال المجتمع المغربي ، وفيه من مصداقية التعبير والتصوير مالا يمكن لجاحد أن ينكره ، بالإضافة إلى أن محتواه يتماشى مع معنى الاستفادة من معطيات الفكر الإنساني العام الذي مر من مراحل الخرافة والأسطورة والتعقل عبر مشواره الزمني المتدحرج إلى الآن ، وهو من الأدلة التي تدل على أن شاعر الملحون كان متعلما ، وفاهما ، ومتفاعلا مع ما يجري في المجتمع والكون وإن اختلفت الطرق ، وتباينت سبل التحصيل والمعرفة .

وهنا نلتقي بمطلق الإنسان ، وعمقه الجامح والجامع لحنين الفعل بكل تجلياته وأنماطه في كل الأزمان والأمكنة ، فالتقدم والتطور الحضاري لا يمكن أن يصبح حاجزا أمام الإنسان وهو يريد أن يرى نفسه في مرآة الوجود بكل تفاصيل الحياة وأنماط العيش الواقعية والمتخيلة .

د مولاي علي الخاميري – مراكش