آخر الأخبار

الـمسـكـوت عـنه والـمنـطـوق فـي أمـر الصـنـدوق – 2 –

سـعـد سـرحـان

معالي رئيس الحكومة المحترم :

هل تعلمون أنه حتى ثمانينيات القرن الماضي كان الطلبة يلتحقون بمراكز التكوين كموظفين ويتقاضون رواتبهم بأرقام تأجير تخضع لكل أنواع الاقتطاعات بما فيها تلك التي كانت لدعم الصحراء. والآن إذا رغب الواحد من هؤلاء في تقاعده النسبي، فإنه يحتسب له وفق سنوات العمل الفعلية وليس وفق سنوات الاقتطاعات. فكيف يحل الاقتطاع من الراتب قبل الوظيفة ويحرم احتسابه بعدها؟هل تعلمون أن من معايير الحضارة عدد الأبحاث العلمية ونسبة المهندسين في المجتمع. ولما كان الحديث عن البحث العلمي في المغرب يدخل في باب الغيبة، فلنا فقط أن نذكّر بأن المغرب بالكاد يتوفر على مهندس واحد لكل عشرة آلاف من السكان، وهو ما يمثل النصف بالنسبة لتونس والربع بالنسبة للأردن ولا شيء تقريبا بالنسبة لليابان. هذا النقص المهول في عدد المهندسين يجعل الواحد منهم في هذا القطاع أو ذاك يعمل عمل إثنين على الأقل.هل تعلمون أن الطبيب في المستشفى العمومي يفحص من ثلاثين حتى خمسة وأربعين مواطنا في اليوم، مع أن المعدّل الدولي هو خمسة عشر فقط. ما يعني أن كل طبيب يوفّر على الدولة طبيبا آخر على الأقل دون أن يكون لذلك أي انعكاس إيجابي على وضعه المادي. بل حتى الاكتظاظ وانعدام الأدوية… غالبا ما يعزى للأطباء والممرضين، شركائهم في المحنة، عفوا في المهنة. هذا الوضع القاتم يبدو ورديا في المناطق النائية حيث تحمل الحوامل على آلة حدباء لساعات طويلة قبل أن يخرج الحيّ من الحيّ إذا خرج حيًّا. ولعل التحقيق الذي بثه التلفزيون المغربي حول الموضوع أن يلخص كل شيء. ففي القرن الحادي والعشرين هنالك مغاربة لا يحقّ لهم أن يمرضوا، وإذا ارتكب أحدهم هذه الكبيرة، فليكن ذلك يومي الأربعاء والخميس، ففيهما فقط تهل على منطقتهم وسائل النقل التي تقل آلامهم إلى مستشفى المركز.هل تعلمون أنه في إطار مغربة الأطر، كان الأستاذ الفرنسي، على سبيل الحصر، يغادر المغرب فيكفي راتبه لتوظيف ثلاثة مغاربة يفوقونه كفاءة. وفي منتصف الثمانينيات أُجبر المدرسون في مختلف الأسلاك على عمل ساعات تضامنية (ما كان الأجانب ليقبلوا بها مجانا)، وبموازاة ذلك تم تقليص عدد ساعات الدراسة في كل مادة بالنسبة للتلميذ، ليصبح نصيب الأستاذ مزيدًا من الأقسام، وهذه الأخيرة ستزداد اكتظاظا سنة بعد أخرى.وبالنظر إلى الزيادة في عدد الساعات وعدد الأقسام وخصوصا عدد التلاميذ، سنجد أن كل أستاذ أصبح يوفّر على الدولة أستاذا آخر على الأقل دون أن ينال أيّ تعويض أو شكر عن ذلك. اللهم إذا اعتبرنا شكرًا التنكيت على المعلمين الذي وصل حتى وسائل الإعلام، أو اعتبرنا تعويضا ارتفاع نسبة الأدرينالين في الدم. لقد مرت الآن ثلاثون سنة على إقرار الساعات التضامنية، تلك التي لو أحصيناها أو أخذنا بعين الحساب ما تمثلة بالنسبة إلى الساعات الواجبة، لوجدنا أن كل مدرّس قد عمل على الأقل ست سنوات تضامنية دون أن تحتسب في ترقيته أو تقاعده. ألم يكن من باب الإنصاف، حتى لا نقول من باب العرفان بالجميل، أن يحال كل مدرّس على الترقية كل سبع سنوات بدل كل أربعة عشر، وأن يحال على التقاعد في الخمسينات من العمر بعد أن وفر على الدولة منصبا كان من الممكن أن يكون من نصيب أحد أبنائه.ثم أليس من باب الإجحاف توجيه الأنظار، إثر كل حديث عن تراجع التعليم، إلى المدرّسين مع أن ما من عدالة في العالم تحاكم أداة الجريمة. ما يقال عن هيئة التدريس ينطبق على غيرها، فبسبب النقص الحاد في الأطر الإدارية، بعد انقراض المعيدين والأعوان وعدم تعويض المتقاعدين، يضطر المدراء والحراس العامون لبذل مجهودات خرافية لأجل ضبط الإيقاع داخل المؤسسات الدراسية، لأن أيّ نشاز يتحوّل إلى انفلات فعنف… فوصمة عار على جبين المدرسة المغربية، تلك التي صارت تحتل مرتبة مخجلة إذ تلتفت فلا تجد غيرها. فإلى أيّ درك ستنزل إذا أرغمنا رجال التعليم على العمل حتى أرذل العمر مع تلاميذ في ريعان الطيش؟ هل تعلمون أن النقص الحاد في عدد رجال الأمن يجعل العاملين بمختلف أسلاكه يعملون ساعات أكثر ويبذلون مجهودات أكبر ويعرضون أنفسهم لغير قليل من المخاطر. فعلى كواهلهم تقع مسؤولية إحباط محاولات التهريب، وتفكيك الخلايا الإرهابية، وتنظيم فوضى السير، ومواجهة الكواسر الجدد بسيوفهم المسلولة، وتحمُّل رعونة وفظاظة أبناء الذوات الذين يعتبرون أنفسهم فوق القانون… وكل ذلك طبعا على حساب سلامتهم الجسدية وعلى حساب وقت أسرهم الصغيرة. فبالنظر إلى عدد ساعات العمل وظروفه يستحق الواحد من هؤلاء تقاعدا مريحا بعد ثلاثين سنة من العمل لأنها تساوي خمسين سنة في بلد آخر. ولست أدري أية حصافة هذه التي تريد تشغيل شرطي حتى الخامسة والستين في بلد أصبح فيه حتى الأحداث يشنّون الغارات؟ هل تعلمون أن رجال الوقاية المدنية يقضون حياتهم المهنية في تماس مع الأهوال حتى لتكاد الحرائق والانهيارات والكوارث الطبيعية أن تكون الرنين الدائم لهواتفهم، فهم لا يستفيقون من أحلام النوم إلا على كوابيس اليقظة. ومع ذلك لن يعدموا من يطيل لهم شريط الكوابيس ذاك سنوات أخرى.هل تعلمون أن ذلك الموظف البسيط في هذه الإدارة أو تلك يُنعت بالمرتشي لمجرد أن راتبه الحقير يجعله يتسلم واجب التنبر ويتلكأ قليلا حتى يتم غضّ الكفّ عن الصرف. هذا أيضا يريدون أن يطيلوا انكسار نظرته، فيما المرتشون الحقيقيون لا ترقى إليهم العيون.هل تعلمون أن الاكتظاظ في المدارس وفائض المرضى في أبواب المستشفيات والحشود في المقاطعات والطوابير القيامية في الإدارات العمومية… يعني بكل بساطة أن عدد الموظفين أقل بكثير مما يكفي لتقديم خدمة للمواطنين تحترم آدميتهم في القرن الحادي والعشرين، وأن الحل، بذات البساطة، هو مضاعفة عدد الموظفين، خفضًا لنسبة البطالة ورفعًا لجودة الخدمات وأرصدة الصناديق التي تحشرج…وليس استغلال الرفع من سنّ التقاعد الذي سيجعل مئات الآلاف من الموظفين يضخّون في صندوق التقاعد ملايير من الدراهم كاقتطاعات وملايين السنوات من العمر(أي أكثر من عمر الإنسان على الأرض) مع أن عقودا فقط من السجن ستكون كافية لردع المتسببين الحقيقيين في اختلالاته واختلاساته والاستفادة منه دون وجه حق. فليس من العدالة في شيء الحكم على مئات الآلاف بخمس سنوات من الأعمال الشاقة، وبعضها كذلك قبل الستين فأحرى بعدها، لمجرد أن فئة قليلة منزّهة (من نزّهها؟) عن المساءلة والعقاب.وليس من الإنصاف في شيء أن يصبح صندوق التقاعد مقبرة جماعية يدفن فيها الموظفون على اختلاف مراتبهم ورواتبهم أحياء لمدة خمس سنوات وكثير منهم قد لا يخرج حيا. مثلما ليس من المنطق في شيء إسقاط تقاعد هذا البد الأوروبي أو ذاك على المغاربة، لأن تقاعد أولئك يسمح لهم بالعيش في المغرب تماما كما كان يعيش خلفاء بني العباس، بينما تقاعد معظم المغاربة لا يخوّل لهم حتى الحصول على التأشيرة. لذلك فهم مرتبطون في أذهان العامة بلعب الورق والضامة قرب أسوار المدن العتيقة التي تسقى بالمثانات. حتى أن هنالك من يروّج للرفع من سن التقاعد بكون العمل خمس سنوات أخرى يبقى أفضل من لعب الضامة، دون أن ينتبه إلى أن العمل أيضا أحسن بكثير من الوقوف، في عزّ الشباب، عند رأس الدرب أو في باب البرلمان. ودون أن ينتبه إلى أن متقاعدينا الأجلاء، باختيارهم ذلك اللعب الزاهد، إنما يوفّرون على البلاد مساحات خضراء تسقى بالماء الشروب، مع أن العصي التي يتوكأون عليها هي السلف الصالح لعصي الغولف.هل تعلمون أن فئة من موظفي الدولة تنتظر بفارغ الصبر الرفع من سن التقاعد، لأن مناصبها المخملية توفّر لها السكن بالماء والكهرباء والهاتف… والتعويض عن السكن. مثلما توفّر لها سيارات الخدمة بسائقها وبنزينها… والتعويض عن التنقل… وكل ما يمكن أن يجنيه المرء من وجاهة مركزه. هذه الفئة قادرة على العمل طالما هي على قيد الكلام، فبالهاتف والمرؤوسين فقط يمكنها أن تعمل فتطيل بذلك امتيازاتها، وهي الامتيازات التي تستحق عليها تقاعدًا مبكّرًا حَقْنًا للأموال.هل تعلمون أننا أصبحنا نعيش تطبيعا كاملا مع السرقة. ففي الصباح ما يكاد الواحد منا يستيقظ حتى تسرقه عينه، فإذا خرج فهو ضحية أكيدة لسرقة حق الأسبقية وحق المشي فوق الرصيف، وسرقة هاتفه أو حافظة نقوده أو كِليته أو مكانه في الطابور، وسرقة حقه في المساحات الخضراء والشواطئ الجميلة والهواء الصالح للرئتين… فإذا عاد مساء إلى سكنه، لن يعدم من يسرق منه حقه في السكينة. وعليه الآن أن يستعد نفسيّا للسطو الأكبر: خمس سنوات من العمر.هل تعلمون أن آخر الدواء الكيّ وليس الموت، وأن الوصفة التي يكتبها الآن أطباء المالية لصندوق التقاعد على رأس أعراضها الجانبية الموت: موت الوظيفة العمومية قبل موت الموظف.هل تعلمون أن من معاني النفط التَّقَرُّح والغضب والاحتراق، وأن أيّ زيادة فيه تأجيج لها. وكل ما يعمل بالنفط سيكلف غاليا بما في ذلك المصباح التقليدي الذي سيؤدي الفاتورة من فتيله وذبالته ونوره الموعود… حتى إذا أفل ندم حامله (في ليل التماسيح، لا في ليل الذئاب) على أنه لم يسر أبدًا بسير الضعفاء.هل تعلمون أن ديوجين كان يبحث بمصباحه عن الحقيقة في عزّ الظهيرة، ولعل مصباحنا، بعد قرون على الأسطورة، أن يحذو حذوه. وأنّ مصباح علاء الدين كان يتمتع بعفريت يحقق كل الأحلام، بينما لا نطلب من مصباحنا سوى أن يكون قمقما كبيرا يبتلع كل العفاريت التي وراء كوابيسنا.هل تعلمون أن العفو عند المقدرة غير العفو عن عجز، وأن العفو عن اللحية غير العفو عمّا سلف، خصوصا وأن هذا الماسلف يفوق بكثير ما نستلفه من الؤسسات الدولية بإملاءات صارمة ترهن منا المستقبل قبل الماضي.هل تعلمون أن المغرب سحَب فور عودة رئيس حكومته من الولايات المتحدة الأمريكية من خزينة هذه الأخيرة مبلغا ضخما من الدولارات حُوِّل للتو فأعطى تسعين مليارا من السنتيمات أضيفت إلى مبلغ هزيل كان مُودعا في خزينة الدولة فصار فيها ثلاثة وتسعون مليارا وستة ملايين من السنتيمات. رئيس الحكومة المقصود هو الراحل عبد الله ابراهيم، والعودة كانت مما أسماه الأستاذ عبد اللطيف جبرو برحلة جلاء القواعد العسكرية الأمريكية التي تمّت في أواخر خمسينيات القرن الماضي وتلتها زيارة الرئيس إيزنهاور إلى المغرب. أما المبلغ المذكور فهو تعويض عن استغلال أرض المغرب في إقامة تلك القواعد. في تلك الفترة كان المغرب بالكاد يحكم نفسه، فيما أمريكا تحكم أكثر من نصف العالم، ومع ذلك فالمرحوم عبد الله ابراهيم ووزيره في الاقتصاد والمالية المرحوم عبد الرحيم بوعبيد طالبا بحق المغرب، الخارج للتو من عهد الحماية الفرنسية، من أمريكا بلد الصواريخ والأساطيل والقنابل والأقمار الاصطناعية… فهل بعد أكثر من خمسة عقود يمكن أن نرى نظيريهما يسترجعان حق المغرب من المغاربة فقط، عفاريت كانوا أو تماسيح أو مصاصي دماء…هل تعلمون أننا مصابون بعمى الفصول. فقديما قيل “صيفنا ولَّى شتوة”. فماذا صار ربيعنا؟ إننا لم نر ربيعا، اللهم إذا كان الجمر زهرًا واللهيب براعم. لم نر ربيعًا، لكننا نستشعر الحافة الآن أكثر من أيّ وقت مضى. إننا مصابون بعمى الفصول، فلا تؤثثوا هذا الربيع الذي لا ربيع فيه بالفزاعات السوداء، ولا تضرّجوه بشقائق النعمان.هل تعلمون أن المغرب هو أجمل بلد في العالم، وأن هذه العبارة السياحية تُعزى للكاتب والطيار الفرنسي سانت إكزوبري، فبياض الثلوج وخضرة السهول وزرقة المياه وألوان الكثبان وغيرها مما كان الرجل يشاهده من قمرة طائرته جعله يلخص اللوحة في عبارته الشهيرة. أما نحن، فنرى المغرب من الأرض لا من السماء، ونحلم أن تكون الحياة على أرضه أجمل.هل تعلمون أن مغرب الطرق السيارة ومراكز التسوق والمهرجانات الدولية والمنتجعات السياحية والمركبات الرياضية والموانئ ومحطات القطار وقصور المؤتمرات… يكاد لا يمت بصلة لمغرب السبيطار والمقاطعة والحبس والمدرسة ومطارح الأزبال… وأن ذاك لهذا كالسماء للأرض.هل تعلمون أن المغرب، هذا المغرب، يمكن أن يكون أجمل بلد في العالم فعلًا لا مجازًا: من الأرض أيضًا لا من السماء فقط.