آخر الأخبار

الصحة تتطلب علاجا كيماويا و سياسيا

الصحة تتطلب علاجا كيماويا و سياسيا ،
هل ماتت السياسة و السياسيون ؟؟

إدريس الاندلسي

شاهد المغاربة، كما تعودوا على ذلك، جلسة في مسلسل مسائلة رئيس الحكومة حول شؤون السياسة العامة. حضر السيد اخنوش إلى مجلس النواب معززا بأغلبية تكاد تكفر بما تشاهده أعين نوابها من هشاشة إجتماعية يعيشها كثير من المغاربة في مجال الولوج إلى الخدمات الصحية. كانت جلسة البرلمان لحظة سياسية بامتياز، على غير العادة. و لكنها كانت في نفس الوقت فرصة لكثير من الأحزاب، التي تولت مسؤوليات سابقا، و تلك التي لا زالت تحمل وزر المقعد الواحد، لكي تعري على واقع مرير لا يمكن حجبه ” بالغربال”. تكاد تنتهي مدة ولاية حكومة اخنوش، بما لها و ما عليها، و لا زال هناك من ينافق المغاربة بإسم الدولة الإجتماعية. و هناك من جعل من كرة القدم خطابا سياساويا قد يفضي إلى حسم الانتخابات المقبلة لتكوين ” حكومة المونديال ” بعد الفوز بكأس أفريقيا في الرباط . و هكذا تسبب الفريق الوطني، بعد نجاحه في قطر سنة 2022 ، في بؤس سياسي لم تكن له يد في صنعه. ذنب أسود الأطلس يكمن في صنع تفوق أكبر بكثير مما تصنعه ممارسة السياسة في بلادنا. يسجلون الأهداف بكثرة في مرمى الشعب، و يتفاخرون بإنجازات هم الوحيدون الذين يرونها، و ليس الشعب. انتقلت ميزانية وزارة الصحة منذ 2014 و إلى غاية 2024 من 12 مليار درهم إلى حوالي 29 مليار. و يظهر جليا أن صرف المال العام لم يعالج الاختلالات التي يعرفها قطاع الصحة. لا زلنا أمام معضلات تهم كافة مقومات هذا القطان. دواء و مستلزمات طبية و خدمات صحية السعر مرتفعة أسعارها، خصاص في الأطباء و في كل المهن الطبية، و خريطة صحية تعكس عمق الفوارق الإجتماعية و المجالية . و تظل محصلة كل هذه الاخفاقات هي ضيق باب الولوج إلى العلاجات.
اختارت الحكومة موضوع ” الصحة” لنقاش برلماني حول السياسة العامة. و تميزت المعارضة باستغلال ما أعطيت من الدقائق لتوجيه خطابات، كانت كلها في صميم الموضوع. و كان الأسلوب اللغوي سلسا و مفهوما رغم السرعة في الأداء. و لكن الملاحظات التي اثارها المتدخلون و المتدخلات لا زالت هي تلك التي كانت تؤثث الانتقادات التي وجهت لحكومات سابقة منذ 2002 . و هكذا أستمر الوضع السيء للصحة العامة ببلادنا رغم انطلاق ورش الحماية الإجتماعية في شقه الصحي. و لا زال المحور الأساسي في مجال السياسة الصحية هو ضعف العرض الصحي و صعوبة الولوج إلى العلاجات. ظن أصحاب القرار أن الحل في تشجيع القطاع الخاص عبر المصحات، فظهر أن هذا التشجيع يقابله اضعاف القطاع العام و الزج بالفئات الإجتماعية ذات الدخل المحدود إلى مستنقع الهشاشة. ستظل التغطية الصحية مجرد شعار في غياب منظومة صحية متكاملة . أصبح الأطباء المخلصون لقسم ” ابقراط “، هم القادرون على تشخيص ما أصاب قطاع الصحة من اختلالات و تراجع يضعف صف بلادنا في مجال مؤشرات منظمة الصحة العالمية الخاصة بولوج المواطن الى الخدمات الصحية. تطور عدد المصحات الخاصة، و تتطور معها حجم ما يصلها من ملايير مؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض، و ما تنفقه الأسر، و جزء مهم من نفقات الدولة. و هكذا أصبحت هذه المصحات التي لا تغطي سوى 30% من الخدمات الصحية تستأجر بحصة 70% من نفقات الأسر. و تصل حصتها إلى ما يزيد على 90% من نفقات مؤسسات الإحتياط الإجتماعي. يقع كل هذا في ظل غلاء هيكلي جعل تكلفة العلاج في القطاع الخاص تتجاوز أكثر من 5 مرات تكلفته في القطاع العام.
أصبح كل مغربي، مهما كانت درجة اهتمامه بالصحة يحفظ عن ظهر قلب نسبة عدد الأطباء، و عدد الممرضين، و عدد الأسرة في المستشفيات، بالنسبة لكل عشرة آلاف نسمة. و ظل النقاش حول هذا الموضوع مجترا منذ سنين. تم إخراج قوانين على المقاس لتشجيع الإستثمار الخاص في قطاع الصحة، و تم الوقوف على حياد سلبي بالنسبة أسعار الأدوية، وخصوصا تلك التي تهم أمراض السرطان و أمراضا مزمنة أخرى. و يا ليت الحكومة فتحت باب تهريب الأدوية، و لو بنسبة ضعيفة، لتمكين ذوي الدخل المحدود من الإستفادة من أدوية تباع بأسعار أقل بكثير في بلدان أوروبية في محيطنا المتوسطي. و سيظل الحصول على موعد لاستشارة طبية في المستشفى العمومي، و الحصول على مواعيد أخرى لإجراء تحاليل مخبرية أو صور بالأشعة، و موعد إجراء عملية جراحية، هو المقياس للحكم على نجاعة منظومتنا الصحية . و سيظل الحصول على تغطية صحيه من عدمه، بسبب الأسعار الحقيقية للخدمات ، و القدرة على تحمل جزء كبير من مصاريف العلاجات، و الخضوع لمقاييس خاصة في كثير من المصحات الخاصة هو المعيار لقياس نجاعة التغطية الصحية.
سيتجدد لقاء رئيس الحكومة، و سيأتي، و الله أعلم، رؤساء آخرون، و وزراء لقطاع الصحة، و سيظل السؤال مرتبطا بالولوج إلى الخدمات الصحية في كافة أرجاء الوطن، و لكل الفئات الإجتماعية. و سنبقى على هذه الحال ما دام بناء المستشفى أهم من بناء العنصر البشري، و حقنه بمبادئ المرفق العام. شاءت الأقدار أن أزور الحسيمة و الأقاليم المجاورة لها قبل و بعد الزلزال. و لاحظت أن المستشفيات موجودة و مجهزة بأحدث وسائل التشخيص و العلاجات. لكنني وقفت أيضا على غياب العدد الكافي من الاطر الطبية في كافة التخصصات و كافة المهن الصحية . و يشمل هذا الوضع كافة المدن و الجهات بما فيها عاصمة المملكة. و لا يمكن أن نبدأ أو نواصل الإصلاح بعيدا عن حكامة جيدة. قد نضع أجمل و أقوى الهياكل التنظيمية و القانونية، و لكن الحكامة، بما تقتضيه من برمجة و تنفيذ و متابعة و تقييم متواصل ، هي الضمانة الكبرى للوصول إلى النتائج الفضلى.