آخر الأخبار

الديمقراطية الداخلية في الجمعيات والأحزاب المغربية… بين الخطاب والممارسة

مع اقتراب كل استحقاق انتخابي في المغرب، تطفو إلى السطح مجموعة من المصطلحات السياسية التي يُكثر السياسيون من ترديدها. وتأتي الديمقراطية على رأس هذه المصطلحات التي تتحول إلى لازمة خطابية جاهزة، يوظفها كل طرف بالطريقة التي تناسبه، ويُفصلها على مقاسه، ويرفعها شعاراً في العلن بينما تكون ممارساته في الواقع أبعد ما تكون عنها. هذا التناقض لا ينحصر في العمل الحزبي وحده، بل يمتد إلى الجمعيات المدنية والنقابات التي يُفترض أن تشكل مدارس للتأطير والمشاركة والتداول، لكنها تتحول في حالات كثيرة إلى فضاءات لإعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس طرق التسيير ونفس أنماط الهيمنة على القرار.

وهنا تُطرح أسئلة جوهرية لا يمكن القفز عليها: هل الديمقراطية مجرد واجهة لفظية تُستحضر في المواسم الانتخابية، أم هي ممارسة مستمرة تبدأ من داخل التنظيمات نفسها؟ هل يعكس واقع الجمعيات والأحزاب والنقابات المغربية مبادئ الديمقراطية الداخلية، أم أننا أمام عمليات انتخابية شكلية بقرارات جاهزة سلفاً؟  كيف يمكن الحديث عن تجديد النخب، واللوائح والمناصب تُحسم قبل انعقاد الجموع العامة؟ وأي أدوار للتأطير الحزبي والجمعوي إذا كان الشباب والمواطنون يُقصون من الفعل ولا يُتاح لهم فضاء لاكتساب الخبرة السياسية والتنظيمية؟

لقد أشار عالم السياسة ألكسيس دو توكفيل بدقة إلى هذا النوع من المفارقات حين قال: “الخطر الأكبر على الديمقراطية لا يأتي من الخارج، بل من داخل المؤسسات عندما تتوقف عن تمثيل من يخضعون لسلطتها.”

وهو قول يلخص بوضوح ما يجري في جزء من المشهد التنظيمي المغربي، حيث تُعلن الديمقراطية كشعار، بينما تُمارس نقيضها داخلياً، فتغيب الشفافية، ويتلاشى التداول، ويُصنع القرار من أعلى بدل أن يُبنى من قاعدة المنخرطين.

إن الإشكال اليوم لا يكمن في غياب النصوص أو ضعف الضوابط القانونية المؤطرة، بل في غياب إرادة تحويل الديمقراطية من خطاب موسمي إلى ثقافة تنظيمية تتجسد في الممارسات اليومية للتسيير، وتنعكس في آليات الانتخاب الداخلي، والتواصل، وصناعة القرار، وإدماج الشباب، وتجديد النخب.

أصل مفهوم الديمقراطية وحدود فهمه

الديمقراطية في أصلها كلمة يونانية مركّبة من “ديموس” بمعنى الشعب و“كراتوس” بمعنى السلطة، أي حكم الشعب بالشعب ولأجل الشعب. غير أن هذا التعريف اللغوي، رغم بساطته، يخفي خلفه تطوراً تاريخياً وفلسفياً طويلاً جعل من الديمقراطية اليوم أكثر من مجرد آلية سياسية، بل منظومة قيم وممارسات وثقافة تتغلغل في بنية المجتمع وتنظيماته.

فالديمقراطية ليست صناديق اقتراع، ولا مجرد لحظة انتخابية تُنظَّم كل بضع سنوات، بل هي قبل ذلك فلسفة في تدبير الشأن العام تقوم على مبادئ أساسية:

  • حرية الاختيار باعتبارها حقاً أصيلاً لا يمكن مصادرته؛

  • شفافية التسيير التي تجعل السلطة خاضعة للمساءلة؛

  • التداول على المسؤولية بما يمنع الاحتكار ويضمن تجديد النخب؛

  • احترام التعددية باعتبار الاختلاف مصدر قوة لا تهديداً؛

  • وسع المشاركة في اتخاذ القرار حتى لا ينفرد شخص أو مجموعة ضيقة بتوجيه مصير التنظيم.

ولذلك، فإن الانتخابات ليست سوى إحدى أدوات الديمقراطية، تُستعمل لتنظيم عملية توزيع المسؤوليات بطريقة عادلة وواضحة. لكنها ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الشرعية والمشاركة.
وقد نبّه العديد من منظّري السياسة، مثل روبرت دال، إلى أن “الديمقراطية الحقيقية لا تُقاس بعدد الانتخابات، بل بمدى قدرة الأفراد على التأثير الفعلي في القرارات”.

وتفقد الانتخابات معناها ومصداقيتها حين تتحول إلى مجرد واجهة شكلية تُستعمل لإضفاء الشرعية على قرارات متخذة سلفاً، أو عندما تتحول إلى آلية لتكريس هيمنة أشخاص بعينهم داخل التنظيمات، فيتم تفصيل اللوائح مسبقاً، وتوزيع المناصب قبل انعقاد الجموع العامة، بينما يُترك المنخرطون لتأدية دور صامت في مسرحية انتخابية متكررة.

من هنا تظهر حدود فهم كثير من التنظيمات للديمقراطية؛ فهي ترفعها شعاراً في الخارج، وتتعامل معها كإجراء إداري داخلي، بينما تتجاهل روحها وجوهرها: المشاركة، التداول، والمسؤولية الجماعية.

إسقاط المفهوم على واقع الديمقراطية الداخلية في الجمعيات والأحزاب

عند الانتقال من المفهوم النظري إلى الممارسة الفعلية داخل الجمعيات والأحزاب، تظهر فجوة كبيرة. فبالرغم من التنصيص الورقي على الديمقراطية الداخلية، نجد أن تشكيل الأجهزة يتم في كثير من الأحيان وفق ترتيبات مسبقة. تُعد اللوائح قبل انعقاد الجمع العام، وتُحسم المناصب في جلسات مغلقة، بينما يصبح الجمع العام مجرد لحظة لإضفاء الشرعية على قرارات اتُّخذت مسبقاً.

هذه المفارقة سبق أن لخصها عالم الاجتماع السياسي ماكس فيبر بقوله: “الشرعية لا تُمنح للقيادة بمجرد الإعلان عنها، بل حين يشعر الأفراد بأن مشاركتهم في صنعها حقيقية.” وهو ما يغيب عن جزء واسع من التنظيمات التي تُبقي المشاركة شكلية، وتُدير عملياتها الداخلية بمنطق التحكم لا بمنطق التفويض الديمقراطي.

وتتكرر هذه الممارسات داخل عدد كبير من التنظيمات الحزبية والجمعوية، حيث تُعاد نفس الوجوه إلى المسؤولية لسنوات طويلة، ويتم احتكار القرار من طرف دوائر ضيقة، وتتحول الهياكل إلى فضاءات مغلقة تعيد إنتاج نفسها باستمرار، مما يؤدي إلى غياب التداول الطبيعي على القيادة وحرمان الطاقات الجديدة من حقها في المساهمة.

وقد عبّر أنطونيو غرامشي عن هذه الحالة بدقة حين أشار إلى أن: “الأزمة تكمن في أن القديم لا يريد أن يموت، والجديد لا يستطيع أن يولد.”

وهي مقولة تكاد تنطبق حرفياً على وضع عدد من التنظيمات التي تتشبث بقياداتها التاريخية وتغلق الباب أمام تجديد النخب، فتظل أسيرة نفس العقليات ونفس الأنماط، دون تطوير ولا ابتكار. كما قال صامويل هنتنغتون في كتابه عن النظم السياسية:

“المؤسسة القوية هي التي تضع قواعد تعلو على الأشخاص، أما الضعيفة فهي التي تتحول فيها القواعد إلى أدوات بيد الأشخاص.”

وفي كثير من التنظيمات المغربية، تصبح القواعد القانونية مجرد ديكور، بينما يُدار الواقع التنظيمي بقرارات فوقية وموازين قوة غير معلنة.

ضعف التأطير وغياب تكوين الأعضاء

من أبرز مظاهر قصور الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب والجمعيات والنقابات ضعف التأطير السياسي والجمعوي. فالشباب المنخرطون، إلى جانب المواطنين الراغبين في المشاركة، غالباً ما يُستقبلون في هذه التنظيمات دون أي تكوين حقيقي، يوضح لهم أدوارهم ومسؤولياتهم، أو يعرفهم بحقوقهم وواجباتهم، أو يعلّمهم كيفية الدفاع عن خياراتهم واتخاذ القرارات بمسؤولية.

ويؤدي هذا النقص إلى عدة انعكاسات سلبية: أولها قبول الأمر الواقع، حيث تصبح الممارسات غير الديمقراطية مألوفة و”طبيعية”، ولا يُثار أي نقاش داخلي يحد من الاحتكار أو يطالب بالتغيير. وثانيها فقدان الثقة في التنظيمات، ما يخلق عزوفاً كبيراً عن الانخراط ويجعل الشباب يبتعدون عن المشاركة السياسية والجمعوية، معتقدين أن هذه الهياكل مغلقة ومحصورة في دائرة محددة من الأشخاص، ولا تسمح بتجديد النخب أو استيعاب الأفكار الجديدة.

ويترتب على ذلك ضعف القدرة على التجديد والإبداع داخل التنظيمات، إذ لا توجد آليات واضحة لتأهيل الكفاءات أو تدريب الأعضاء على التسيير الديمقراطي، أو لإعدادهم للمسؤوليات المستقبلية. كما ينعكس هذا على مستوى البرامج والمبادرات، إذ تظل مجرد نسخ عن ممارسات سابقة، بلا قدرة على التفاعل مع التحولات الاجتماعية والمتطلبات الجديدة للمجتمع.

وقد عبّر عن هذه الحقيقة المفكر جون ستيوارت ميل حين أكد: “الديمقراطية تنجح حين يكون المواطنون متعلمين قادرين على فهم خياراتهم والمشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات.” 

ومن هنا، يتضح أن غياب التأطير والتكوين لا يضر فقط بالأعضاء الفرديين، بل يضعف أساس التنظيم نفسه ويحد من قدرته على بناء هياكل ديمقراطية حقيقية قادرة على التجديد والمساءلة.

معايير الديمقراطية الداخلية السليمة: كيف يجب أن تتم الانتخابات والتسيير؟

تحقيق ديمقراطية داخلية حقيقية لا يتم بمجرد تنظيم جمع عام أو إجراء عملية انتخابية شكلية، بل عبر مسار متكامل يبدأ قبل يوم التصويت ويستمر بعده.

تبدأ الديمقراطية السليمة أولاً بضمان حرية الترشيح دون ضغط أو توجيه مسبق. يجب الإعلان عن فتح باب الترشيحات بوقت كافٍ، مع توفير شروط واضحة وعادلة للمتنافسين، بعيداً عن أي انتقاء مُسبق أو اتفاقات مغلقة تحدد الفائزين قبل أن يجتمع المنخرطون. كما ينبغي تشكيل لجنة مستقلة للإشراف على العملية الانتخابية، حتى لا تكون الجهة المنظمة طرفاً في التنافس.

أما عملية التصويت نفسها، فينبغي أن تتم بطريقة شفافة، سواء بالاقتراع السري أو العلني حسب القوانين الداخلية، مع ضمان تكافؤ الفرص بين المرشحين في تقديم برامجهم. ويجب احترام مبدأ “صوت واحد لكل عضو”، لأنه أساس المساواة داخل التنظيم، مع ضبط لوائح الحضور بشكل محايد يمنع أي إقصاء أو تحكم.

بعد انتهاء الانتخابات، تستمر الديمقراطية عبر توزيع المسؤوليات على أساس الكفاءة لا الولاءات، ووضع آليات للمحاسبة، وتقديم التقارير الأدبية والمالية بشكل منتظم، إضافة إلى تنظيم لقاءات تشاورية مع الأعضاء. فالمكتب المنتخب ليس سلطة فوقية بل ممثل لقاعدة ينبغي التواصل معها بشكل دائم، لضمان وحدة القرار واحترام مبادئ المشاركة.

إن الديمقراطية الداخلية السليمة تجعل القيادة مسؤولية مؤقتة، لا امتيازاً دائمًا، وتشجع على التجديد الطبيعي للنخب، وتضمن بقاء التنظيم حياً ومتطوراً، لا مجرد إطار فارغ بإدارة جامدة.

انعكاسات غياب الديمقراطية الداخلية على العمل العام

غياب الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب والجمعيات والنقابات يترك آثاراً واضحة وعميقة على الحياة التنظيمية وعلى قدرة هذه المؤسسات على تحقيق أهدافها. أول انعكاس ملموس هو احتكار المناصب والمسؤوليات من طرف دوائر ضيقة، ما يؤدي إلى قتل روح التجديد وإعاقة تداول النخب. هذا الاحتكار يولّد جموداً في الأفكار والبرامج ويحد من قدرة التنظيمات على الابتكار والاستجابة للتحديات الجديدة، كما يدفع كثيراً من الكفاءات المستعدة للمساهمة إلى الانسحاب بهدوء، تاركة الساحة للأسماء التقليدية فقط.

وثاني انعكاس يتمثل في تغليب الولاءات الشخصية على الكفاءة، حيث يصبح الانتماء إلى دائرة معينة أو القرب من القيادات أهم من الخبرة والكفاءة، مما يضعف فعالية التنظيمات ويجعلها عاجزة عن القيام بأدوارها الأساسية، سواء في التأطير والتكوين أو اقتراح السياسات والمبادرات أو خدمة المجتمع بشكل فعّال. وهكذا، تتحول التنظيمات من أدوات للتغيير الاجتماعي والسياسي إلى هياكل شكلية محكومة بالولاءات الداخلية، لا بالمعايير المهنية أو القيم الديمقراطية.

أما ثالث انعكاس فهو تراجع الثقة الشعبية في العمل السياسي والجمعوي. فالمواطن الذي يلمس أن التنظيمات تحتكر القرار ولا تفتح المجال للمشاركة الفعلية، يبدأ تدريجياً بفقدان الأمل في تأثيره، ويقلّ اعتماده على المؤسسات الوسيطة، وهو ما يضعف الارتباط المجتمعي بهذه المؤسسات ويؤثر سلباً على المشاركة المدنية بشكل عام.

وقد لاحظ عالم السياسة روبرت دال أن: “الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات، بل على قدرة المواطنين على التأثير الفعلي في قرارات من يمثلونهم.”

ومن هذا المنظور، فإن غياب الديمقراطية الداخلية يعني ليس فقط ضعف التنظيمات نفسها، بل أيضاً تقويض الفعل الديمقراطي على المستوى العام، وإضعاف قدرة المجتمع على النهوض بمؤسساته وممارسة حقوقه بشكل كامل.

نحو تعزيز الديمقراطية الداخلية: توصيات ضرورية

إن إصلاح أعطاب الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب والجمعيات والنقابات لا يمكن أن يتم عبر شعارات عامة أو نوايا معلنة، بل عبر إرادة حقيقية تستحضر أن الديمقراطية ليست مجرد «ديكور انتخابي» بل ممارسة يومية تؤطر التنظيم وتوجه علاقاته وتحدد طريقة صناعة القرار داخله. ولذلك، يصبح من الضروري الانتقال من منطق “التحكم” إلى منطق “الحكامة الديمقراطية”، ومن منطق “التعيين المقنّع” إلى منطق “المنافسة المفتوحة”.

أول خطوة في هذا المسار هي تعزيز الشفافية في العمليات الانتخابية الداخلية، عبر نشر لوائح المنخرطين، وضمان حياد اللجان التنظيمية، وتمكين الجميع من المعلومة في الوقت المناسب. فالشفافية ليست امتيازاً تمنحه القيادة لأعضائها، بل حق ديمقراطي أصيل.

كما أن وضع معايير واضحة وموضوعية للترشح يضمن تكافؤ الفرص ويُبعد منطق الولاءات الضيقة. ويضاف إلى ذلك ضرورة تحديد عدد الولايات في المناصب القيادية لمنع الاحتكار وتشجيع التداول الطبيعي على المسؤوليات، بما يسمح بضخ دماء جديدة داخل التنظيمات. فالديمقراطية لا يمكن أن تُختزل في انتخاب شخص نفسه لسنوات طويلة، بل في القدرة على تجديد النخب وإعادة توزيع الفرص.

ومن الركائز الأساسية كذلك إرساء آليات فعّالة للمحاسبة، لأن الديمقراطية بدون محاسبة تتحول إلى واجهة شكلية، وتفقد القدرة على تصحيح الاختلالات. كما أن تمكين الشباب والنساء يجب أن ينتقل من مجرد خطاب إلى أفعال ملموسة عبر تخصيص حصص داخل الأجهزة، واستحضار الكفاءة بدل منطق الرمزية.

ولا يمكن إغفال أهمية التأطير والتكوين المستمر لأعضاء التنظيمات، لأن جزءاً كبيراً من ضعف المشاركة يعود إلى غياب الوعي التنظيمي والقانوني. فعضو غير مُكوَّن هو عضو يسهل التأثير عليه، بينما العضو المتمكن من حقوقه وخياراته يصبح شريكاً فعلياً في القرار. وهنا يستحضرنا قول جون ستيوارت ميل: الديمقراطية تنجح حين يكون المواطنون متعلمين قادرين على فهم خياراتهم.”
وهو قول يُبرز الحاجة الملحة لإعادة الاعتبار لثقافة التكوين السياسي والمدني داخل التنظيمات المغربية.

إن بناء ديمقراطية داخلية حقيقية يتطلب مؤسسات تُدار بالقواعد لا بالأشخاص، وتُبنى على المشاركة لا على الإقصاء، وتُوجَّه بالتعاقد لا بالولاءات. فالرهان اليوم ليس فقط خلق تنظيمات قوية، بل خلق مواطنين أقوياء قادرين على ممارسة حقوقهم بكفاءة ووعي ومسؤولية.

خاتمة: الديمقراطية حق واختيار… وليست امتيازاً يمنحه التنظيم

في نهاية المطاف، فإن الديمقراطية الداخلية ليست ترفاً تنظيمياً ولا مطلباً إضافياً، بل شرطاً ضرورياً لبناء تنظيمات قوية، شرعية، وقادرة على قيادة التغيير. فالتنظيم الذي لا يُنشئ آلياته الداخلية على أسس ديمقراطية، لا يمكنه أن يساهم في ترسيخ الديمقراطية على مستوى الدولة أو المجتمع. ففاقد الشيء لا يعطيه.

وأردد دائماً أن القانون والسياسة إن لم تمارسهما كفاعل ستمارس عليك كمفعول به؛ فغياب الفعل الواعي داخل التنظيمات يخلق فراغاً يستغله أصحاب التحكم والتوجيه، بينما المشاركة الواعية تحصّن الحقوق وتضمن التداول وتمنع الاحتكار. ومن الطبيعي بل من الدستوري أيضاً أن يملك كل فرد حق الاختيار؛ فهذا الحق جوهر المواطنة والديمقراطية، ولبنة أساسية في بناء مؤسسات تمثل المجتمع فعلاً لا شكلاً.

لكن الإصلاح الحقيقي يقتضي أيضاً توقف السياسيين عن العبثية في استعمال المصطلحات الكبرى خلال حملاتهم الانتخابية. فمصطلحات مثل “الديمقراطية”، “الشفافية”، “الحكامة” و”التداول” تُردَّد كثيراً، ولكنها تُستعمل غالباً كشعارات جاهزة، كـ”جعجعة بلا طحين”. غير أن الزمن تغيّر، ورغم محدودية التأطير والتكوين، فإن الأجيال الحالية تستوعب جيداً معاني هذه الكلمات، وتدرك الفرق بين الخطاب والممارسة، وبين من يرفع الشعار ومن يطبّقه فعلاً. لذلك، فإن مواصلة استهلاك هذه المفاهيم بصورة سطحية لم يعد ينطلي على أحد.

ومع ذلك، تبقى أسئلة عميقة مطروحة بإلحاح:

  • هل نحن مستعدون فعلاً للانتقال من تنظيمات مغلقة إلى تنظيمات تجعل منخرطيها شركاء حقيقيين في القرار؟
  • هل تستطيع الأحزاب والجمعيات التحرر من ثقافة “الزعيم الأبدي” ومنطق الولاءات لتفتح الطريق أمام تداول طبيعي ومسؤول؟
  • وهل نملك الشجاعة لإرساء قواعد واضحة وشفافة ومُلزِمة، حتى لو أعادت توزيع موازين القوة؟
  • وإلى أي حد يمكن للشباب والنساء، إن توفرت لهم شروط المشاركة الفعلية، أن يضخوا روحاً جديدة في العمل السياسي والجمعوي؟

إنها أسئلة تتجاوز نقد الواقع لتلامس جوهر الإشكال:
هل يمكن بناء مؤسسات قوية في مجتمع لا يُمارس فيه الديمقراطية من الداخل؟
وهل يمكن انتظار تغيير حقيقي إذا ظلت التنظيمات تعيد إنتاج نفس الوجوه ونفس العقليات؟

هذه الأسئلة قد تظل معلّقة، لكنها ليست رفاهية فكرية، بل ضرورية لتأمل مستقبل المشهد السياسي والمدني ببلادنا. فالديمقراطية الداخلية ليست محطة نصل إليها، بل مسار طويل يتطلب إرادة، ووعياً، وشجاعة جماعية. وإن أردنا فعلاً بناء مؤسسات تستجيب لانتظارات مجتمع يتطلع إلى التغيير، فعلينا أن نبدأ من الداخل… حيثما تولد الديمقراطية داخل التنظيم، يزدهر الفعل العمومي خارجه.