إدريس الأندلسي
وجب الإعتراف بأن قراءة تاريخ الجزائر بعد الانقلاب على أول رئيس ” مغربي” لهذا البلد الذي هو جزء منا، ثقافة و جذورا و تراثا و عادات و تقاليدا، تخضع لمنطق العاطفة و لصنع آليات السلطة و التحكم في المؤسسات في منطقتنا المغاربية. لا يجب أن ننسى أن مغاربة كانوا في صف حكام الجزائر الجدد لأسباب متعددة ، و كان بعضهم يتقاضى أجرا يضاهي أجرا رئيس الجزائر بن بيلا. و لا يجب أن نتناسى أن الإستعمار الفرنسي كان الداعم الأساسي لفرقة( بالضمة على الفاء) مناسبة لتصوراته في كل من المغرب و الجزائر. توارات عن المشهد كل القيادات الفعلية التي صنعت “مجد” الثورة ضد الإستعمار الفرنسي. ركب الكابرانات، الذين صنعتهم فرنسا ،السيارة الرسمية التي أقلتهم من وجدة إلى قصور الحكم التي كانت بأيدي المستعمر في الجزائر. سكنوا هذه القصور و قرروا بإسم شرعية، غير شرعية، اغتيال مجاهدي الجزائر الحقيقيين. حصلوا على السلاح في المغرب و تونس، و قاموا بتخزينه و عدم تسليمه للثوار، و قرروا استعماله بعد ” الاستقلال ” ضد من قاوموا و صنعوا الأمجاد في الاوراس و كل البؤر الثورية . و أصرت قوى الإستعمار على تحويل طالب أزهري، كان إسمه بوخروبة، إلى زعيم يمسك بزمام الأمور، بما في ذلك السيجار الكوبي و القرار الإقتصادي و الفوضى المالية. رحل دون أن يحاسب على فشل سياساته الإقتصادية. رحل معه من اغدقوا على ذريتهم ملايير البيترودولار و اسكنوها أجمل الشقق في أوروبا و أمريكا. و لا زال أصحاب القرار في القرار حتى بلغوا أقصى درجات العمي بفعل الظلام، و لازال شعب الجزائر في قرار، و في عمق الغياب. أصبحت الأولوية ،لدى الانقلابين و مغتالي قادة الثورة الحقيقين ، صنع عدو خارجي لخداع شعب الجزائر. و لأن أمريكا بعيدة، و لأن ألمانيا و فرنسا و الهند و اليابان توجد في أماكن لا تربطها بالجزائر حدود أو ماض مشترك و ثقافة، فقد قرر كابرانات فرنسا إلهاء الشعب بصنع عدو يوجد في الجوار. و هكذا نجحت فرنسا في تطويع أبنائها في الجزائر و تحويل انظارهم العدائية إلى من ساندهم بالمال و السلاح بكرم و سخاء و إلتزام. صنعت لهم فرنسا حدودا على حساب كل دول جوارهم، فتصرفوا بمنطق فرنسا، و خانوا العهود. و تغيرت المعطيات بعد 60 سنة. تحول المجاهد ، و الشهيد الذي لا زال حيا يرزق !!!!!، إلى فاعل اقتصادي و تاجر و خبير في سوق الأسلحة الفاسدة ، يكتب تاريخ بلاد بالدم، بإسم محاربة إرهاب مصنوع في أقسام المخابرات، ليصل إلى حضيض لا يحسد عليه. و الأهم في الموضوع هو شعب الجزائر العظيم الذي تم اغتيال طموحاته في العيش الكريم. و لا زالت أرض الجزائر تنتج خيرات كبيرة لم تصل آثارها لتجعل من المواطن الجزائري كائنا يعيش في نفس مستوى المواطن السعودي و القطري و الإماراتي و غيرهم …
تعبت الجزائر كثيرا من جراء طموحات طبقة سياسية دخيلة على التاريخ و السياسة و الأخلاق. فهمت فرنسا أن بقائها في أرض ورثتها عن الايالة العثمانية لم تعد ذات جدوى على المدى الطويل . فهم الجنيرال ديغول أن هذا الحمل ” من الاعباء ثقيل و مخيف” كما قال الشاعر مظفر النواب ، و أن الإستمرار في تدبير إرث عثماني قد يغير كثيرا من المعطيات الديمغرافية قد تصل إلى بلدته المسماة ” كولمبي لي دو اجليز ” إشارة إلى كنيستين . قال إنه لا يريد أن تتحول بلدته التي تعرف بكنيستيها الاثنتين إلى بلدة قد تصبح معروفة بمسجدين. و قبل أن يتم إتخاذ قرار إستقلال الجزائر، و ترك الجمل بما حمل، قررت فرنسا أن تكلف بأمر تدبير اخطاءها التوسعية، ضد ليبيا و تونس و المغرب و مالي و النيجر، بعض أطر الجيش الفرنسي الذين احكموا قبضتهم على التركة التاريخية الفرنسية بالجزائر. اغتال هؤلاء أغلب قيادات الثورة، و نظموا الجنائز الوطنية ، و ” عقدوا العهد أن تحيا الجزائر “. ترك لهم جنيرالات فرنسا قصورا و سلاحا و قوات ردع، و كثيرا من الشعارات. قتلوا كل الوطنيين و كان آخرهم، المغدور ” بوضياف ” بعد ” عميروش المناضل ، و المحامي علي مصيلي الذي حلم بوطن حقوق الإنسان ، و محمد خيضر الذي كان ضحية غدر أبناء الإستعمار و عبان رمضان، و كريم بلقاسم و كثير ممن سقط برصاص الكابرانات، أبناء خدام الإستعمار. و ألقى المغدور بوضياف نظرة على فريق الاغتيالات قبل أن يسلم روحه لمن سيحاسب مهندسي الخيانات.
و هكذا تحول المواطن الجزائري الذي كان من المنتظر أن يكون من أغنى مواطني أفريقيا و العالم العربي، نظريا، بفضل خيرات بلاده من المعادن و البترول و الغاز، إلى مواظب على كل مشاهد المعاناة المتمثلة في الطوابير من أجل أرز و زيت و حليب و سكن و أمن.
و قال كثير من مفكري الجزائر و وزراءها السابقون أن بلادهم تعيش أزمة تاريخية معقدة جدا. قال أحد الوزراء أن الجزائر تعيش على هامش التاريخ، و لا قدرة لها على الإيمان الحقيقي بهوية وطنية ، لا توجد إلا في مخيلات من يسيطرون على القرار السياسي، و أموال بيع الموارد الطبيعية، و من يمتلكون مفاتيح السجون، و اقنان الحسابات البنكية في سويسرا، و مفاتيح الدخول لكل الجنات الضريبية. و ظل أبناء فرنسا أوفياء لمن ارضعتهم كل قيم التنكر للتاريخ، و العيش على إنكار كل عمل ساند الأوفياء، من بينهم، على بناء وطن. و لكن دم المستعمر سرى فيمهم مسرى السم في العروق. نسيت قيادة الجزائر، بعد 1962 ، كل الصلات، و انصاعت لكي تسجد لصانعيها ، و لكي تعيش في مستنقع الغدر. و لا زال الكابرانات ينهشون أجسامهم، و يلقون، بعضهم البعض، في سجون بناها الإستعمار لكي يمنحهم قدرة على تدميرهم لماضيهم بعنف تجاوز عنف فرنسا و ملوك العثمانيين ، و لم يفهموا حكمة المرابطين و الموحدين و كل الشرفاء الذين عاملوهم بالحسنى و بكثير من الإيمان بالمستقبل المشترك حتما . و هكذا سيستمر من لا زالوا يبحثون عن هوية، على مكان في التاريخ ، و ملجأ في صفحات الوثائق التي لم تثبت وجودا لهم معترفا به.
و لأن الفاقد للشيء لا يعطيه، تواصل مسلسل البحث عن هوية في تاريخ لا يعترف بالكراغلة الذين يعيشون على جغرافيا من صناعة عساكر فرنسا. و لتبديد الشك وجب اللجوء إلى الوثائق التاريخية الفرنسية التي كتبها من صنعوا الحدود و اغتالوا العهود، و لم ينكروا أن بلاد المغرب تشهد عليها ثقافة معمارية و أرشيف يوثق حدودها و ثقافتها منذ قيام إمبراطورية المرابطين و الموحدين و بنو مرين و العلويين و كل من شهد بصدق تاريخي موثق على ما أحاط بحدود المغرب من سطوة استعمارية رسمت خارطة ارتضاها أبناء فرنسا الجزائريون الذي اغتالوا المجاهدين الحقيقيين.
و سيظل المتسللون إلى بيت التاريخ، مجرد باحثين عن مكان في شرعية الزمان الحضاري الموثق بالفعل المعماري، و بالحضور العلمي. و سيسجل التاريخ أن أموال الشعب الجزائري البترولية تم تسخيرها لخدمة اقلية لتشتري السلاح، و لتكون صندوق الرشاوي الفاعل في شراء بعض الأصوات داخل بعض المنظمات الدولية. اندحر القرار بفعل فضائح محاولة إعادة صنع القرار. و ضاعت أموال الشعب الجزائري الذي كان و لا زال، من حقه، أن يعيش في ترف مثل شعب الإمارات و كل دول الخليج.
حاولت طغمة الإرشاء ،في قلب العاصمة الجزائرية، صنع قرار دولي يدين إرادة المغرب في الحفاظ على وحدته الترابية. حاولوا و اجتهدوا و تمدد كرمهم الحاتمي إلى تمويل عمليات قمار عملاءهم، من صحراوي المغرب، المغرر بهم، في فنادق أديس أبابا و نيروبي. و لن أنكر شهادات من رأوا عن قرب إدمان هؤلاء على سهر مؤدى عنه. القضية بالنسبة للجزائر حيوية و الأصل في تبنيها مصلحة عليا لن تتجسد إلا بالسيطرة على جزء كبير من الأراضي المطلة على المحيط الأطلسي.
توالت بعثات الأمم المتحدة و تبين بالملموس أن الجزائر لا تهتم بأي حل سلمي و واقعي لقضية الصحراء. و أستمرت في مهاجمتها للتاريخ و لحق المغرب في وحدته الترابية. و كان القرار المغربي هو دعمه لعمل للأمم المتحدة و لبعثة (المينورسو) “التي تسعى لإنجاح الجهود الأممية الرامية إلى حل سياسي لهذا النزاع الشائك والقائم منذ عام 1975، وذلك بإيجاد صيغة توافقية نهائية بشأن وضعية الحكم في المنطقة”. وصل جوهانس مانس، الدبلوماسي السويسري، الذي عينه الأمين العام خافيير بيريز دي كويلار كممثل خاص بتاريخ 29 أبريل/ 1990 وظل في هذه المهمة حتى ديسمبر/كانون الأول 1991. و تواصلت الجهود الأممية مع تعيين الباكستاني، صاحب زاده يعقوب خان، الذي عينه الأمين العام الأسبق الراحل بطرس غالي في سنة 1992 كممثل له ، وانتهت مهمته في غشت 1994. ثم تم تعيين ممثل آخر إلى غاية 1997، الذي شهد عهده، محاولة عملية “تحديد الهوية” و التي شهدت أيضا رفضا جزائريا لإحصاء الصحراويين، و أدت إلى تجميد عملية تحديد من له الحق في التصويت. و جاء جيمس بيكر، صاحب المناصب الكبرى في حكومات أمريكية بين 1981 و 1993 ، والذي قدم خطة للحكم الذاتي كتسوية للنزاع . و تكسرت خطة بيكر على صخرة ” من له الحق في التصويت في الاستفتاء و على المعايير التي تحدد هوية المصوتين “. و توالى مسلسل تسمية ممثلي الأمين العام للأمم المتحدة دون تسجيل أي تقدم. مر من هذا المسار بيتر فان فاسوم الذي حاول، دون نتيجة تؤدي إلى تنظيم محادثات بين أطراف النزاع خلال الفترة الممتدة من 2005 إلى 2007 . و قد صرح فالسوم في 2008 ،عند إنتهاء مهمته أن ” خيار الاستقلال الذي تطالب به البوليساريو “خيار غير واقعي”، وأن خيار استفتاء تقرير المصير الذي طـرح سابقا “أمر تجاوزه الزمن ” . و لم تستمع بعض الدول لهذا الرأي الحكيم الذي أصبح اليوم هو المشروع المقبول عالميا. و تبين لمجلس الأمن أن الجزائر صاحبة القرار في زمرة صنيعتها البوليساريو، لا تريد الا حلا واحدا يفضي إلى سيطرتها على الصحراء المغربية و الولوج إلى المحيط الأطلسي. و سيظل العدو الأكبر لمن يحكمون الجزائر، بدون شفقة على مقدرات شعبها، هو ذلك المشاغب الذي لا يستسلم لهواهم، لأنه التاريخ العنيد و الذي يفضح من يحاول تزويره. و لهذا لا يمكن أن يتجه طغاة الجارة الشرقية إلا إلى ملاحقة السراب مهما تم تزوير المسببات و الأسباب.