آخر الأخبار

التضامن بين الرمزية والمغامرة: ضرورة المساءلة الأخلاقية للذات

مصطفى المنوزي

يظل التضامن، في أبعاده الرمزية والعملية، أحد أهم أشكال التعبير عن الانحياز للقضايا العادلة ومناهضة الظلم. غير أن سوء فهم حدود التضامن وحدود وقعه الرمزي كثيرًا ما يقود إلى التباسات تضعف من فعاليته. فمجرد التلويح بالفعل قد يترك أثرًا معنويًا وتعبويًا قويًا، كما هو الحال في نموذج العمليات الفدائية التي لا يقاس أثرها بالنتائج الميدانية المباشرة بقدر ما يقاس بقدرتها على شحن الوعي الجماعي واستنهاض التعاطف. لكن هذا لا يرقى وحده إلى مستوى الانتصار الاستراتيجي، بل يظل رهانه في الإطار الرمزي والتعبوي.
في هذا السياق، يشكّل تنظيم رحلة إبحار نحو غزة لكسر الحصار مثالًا معبّرًا. فالحدث في جوهره تضامني رمزي، يهدف إلى تسليط الضوء على معاناة المدنيين وخلق ضغط إعلامي ودبلوماسي. إلا أن فعاليته تبقى مشروطة بمدى قدرته على تجاوز الطابع الظرفي والتحوّل إلى فعل مستدام يرفده تحرك قانوني ودبلوماسي وإنساني.
وهنا يبرز التناقض بين المغامرة غير المحسوبة وبين الانسحاب غير المبرر. فالرهان على مغامرة مطلقة، دون حساب للمخاطر أو استباق للسيناريوهات المحتملة، يتعارض مع الأهداف التضامنية نفسها، خاصة أمام معرفة الجميع بطبيعة النظام الدموي الصهيوني ، وقدرته على إبادة الغير من أجل ضمان بقائه الأبدي ؛ تمامًا ؛ كما أن التراجع (الإستدراكي ) في منتصف الطريق، دون قوة قاهرة تبرر ذلك، يُضعف صدقية المبادرة ويشوّش رسالتها. أما التذرع بمرض مزمن / غير مفاجئ أو أسباب أمنية لم يُحسب لها حساب قبلي، فيطرح علامات استفهام حول علة التسرع ومدى جدية التخطيط ، وغياب ثقافة الاستباق الاستراتيجي. وحتى لو بدا الأمر في بعض اللحظات أنه يستدعي استعدادًا للتضحية القصوى، وربما إلى حد الاستشهاد، فإن الواجب يقتضي التذكير بأن التضامن لا ينبغي أن يُختزل في نزعة فدائية أو مغامرة شخصية. فالوطن (لا بمفهوم الأمة ) يظل أولى بالوفاء، والأسرة تبقى أمانة، والذات — بما تمثله من قيمة وكرامة — هي رأس مالها لدى صاحبها. لذلك فإن كل فعل تضامني مسؤول ينبغي أن يوازن بين الحماسة الأخلاقية والواقعية العملية، بما يضمن أن التضحية لا تتحول إلى تهور، وأن الإقدام لا يُترجم إلى استنزاف غير محسوب.
صحيح أن الخطأ الحاصل محصور في الممارسة فقط وليس يمس المبدأ ، غير أن خيار التضامن وأبعاده القيمية ومجاله ليس ساحة للمزايدات ولا مسرحًا للبطولات الفردية، بل هو التزام جماعي تحكمه قواعد المسؤولية والمصداقية. لذلك فإن الإدانة الانفعالية لا تكفي لمعالجة ما يعتري بعض المبادرات من ارتجال أو انزياح، بينما المساءلة الأخلاقية تظل ضرورية لتفادي تكرار نفس الأخطاء ولترسيخ معايير واضحة تحكم العمل التضامني ، على أساس أنه مجال لإنتاج القدوة وتمثل الأمن القيمي ، ومرتبط بالكلفة ، فكل مناضل حقيقي وصادق يعد رأسمالا و ثروة وطنية ؛ لا يعقل تبذيرها لمجرد حماس غير منضبط ؛ ولنا في شهدائنا الذين اختاروا معركة الأمعاء الفارغة اللامحدودة في الزمان وسيلة خير نموذج ، فقضوا ورحلوا دون أن يشاوروا في أمرهم العظيم !
ولذلك فالمطلوب إذن ليس جلد الأشخاص أو التشهير بهم، وإنما بناء وعي جماعي بأن التضامن فعل أخلاقي بقدر ما هو فعل سياسي. وهو يستدعي:
1. وضوح الأهداف وتمييز الرمزي من الاستراتيجي.
2. تخطيط قبلي يدمج تقييم المخاطر والتوقعات الأمنية.
3. شراكات دبلوماسية وقانونية لتحويل اللحظة الرمزية إلى ضغط مستدام.
4. ميثاق تضامني يحدّد قواعد الالتزام ويضمن كرامة المشاركين والمستفيدين على حد سواء. وهكذا فقط يمكن حماية الفعل التضامني من الارتجال والمزايدات، وضمان أن يبقى في خدمة القضايا العادلة لا في خدمة نزعات شخصية أو رهانات إعلامية عابرة، وحتى لا يسقط الوعي في العدم علينا إستيعاب أن الصمود موضوعي وسياسي قبل أن يكون ذاتيا ؛ أي علينا أن نستوعب أن الصمود ليس مجرد حالة وجدانية أو نزوع ذاتي، بل هو قبل كل شيء معطى موضوعي وسياسي، يتأسس على شروط واقعية واستراتيجيات مدروسة، قبل أن يتحول إلى إرادة فردية أو تضحية شخصية منفلتة عن روح التضامن العقلاني والنقدي .