سـعـد سـرحـان
لم يخترع الإنسان العجلة إلا بعد أن أصبح في عجلة من أمره. ولعل وطأة الزمن، أو بالأحرى دورته المحكمة كطوق، هي ما حذا به إلى فعل ذلك. فكما لا يَفُلُّ الحديد إلا الحديد، لا يفل الزمن سوى السرعة. ذلك أن الحركة، وهي من أسماء الحياة، جعلت المسافات تعبِّر عن نفسها بالدقائق، وهذه الأخيرة تُعرب عن نفسها بالكيلوميترات، في حلول للزمن في المكان صارت معه الساعة عجلة بعقارب.هكذا دبّر الإنسان أهم صفقة في تاريخه: “المكان ثمنًا للزمن”. وهو ثمن باهظ جدا أين منه الذهب الذي ضربت به سكّة الوقت. فمنذ العجلة والمكان يفسح في المجال للزمن. وكما أن أحدًا لا يستطيع أن يقدّر عدد العجلات الموجودة الآن على الأرض، لا أحد يقدر أن يخمّن المساحات التي تحتاجها هذه العجلات وغيرها من وسائل السرعة لتوفير الزمن بازدراد المسافات. فلو استطعنا أن نجمع كل الطرقات إلى بعضها، السيّار منها وغير السيّار، وأضفنا إليها كل السكك الحديد والجسور والموانئ والمطارات وحقول النفط ومحطات الوقود… لحصلنا على مساحة قارة صغيرة، هي قارة الإسفلت والحديد، تلك التي اقتطعها الإنسان من سهل الأرض ووعرها، من جدبها وخصبها، لفائدة عمره الذي يحسب بالسنوات وليس بالهكتارات. قارة الحديد والإسفلت إذن هي الثمن. ومن لا يستطيع أن يقدّره، عليه فقط أن يتخيّل كل طرقات العالم وسككه، على سبيل المثال، حقولًا ومراعيَ وبساتين… محاصيلها كفيلة بجعل المجاعة كلمة بلا معنى.لقد ركب الإنسان الخيول قرونا قبل اختراع العجلة، لذلك فهو لم يستغن أبدًا عن الحصان، بل جعله دائما أمام العربة بوصفه محرّكًا حيًّا للعجلات. وحتى حينما اخترع السيارة وأضرابها مما يسعى الآن في تلك القارة، لم يجد بُدًّا من الاحتفاظ ، ولو رمزيا، بمطيته النبيلة، فقدَّر قوة المحرك بعدد الخيول، تلك التي لو كانت مرئية لشاهدنا منها، عند كل إشارة مرور، ما يكفي معركة تاريخية. فليس من باب المصادفة، إذن، تسمية حوادث السير بحرب الطرق، فخيول المحرّك لها سنابك من مطاط.بتطوّر العجلات تطوّرت الطرقات. فطرق الحصباء هي السلف غير الصالح للطرق السيّارة، والسكة الحديد على عهد القطار الذي يسير الهوينى تطوّرت إلى سكة ذهبية مع القطارات الفائقة السرعة، والأنهار أضحت بسروج (عفوًا، بجسور)، والجبال باتت بأنفاق… وها هو الزمن الآن يرفل في نعيم المكان.في المغرب، وهو مربط العربة، يُحسب للمولى إسماعيل استقدامه لصناع الحلويات ومصمّمي الحدائق، مثلما يُنسب إليه إدخال أوّل عربة إلى البلاد. تلك التي شُحنت إلى ميناء إحدى مدن الشمال، ومنه نقلت إلى العاصمة محمولة على الأكتاف، في مشهد ليس أغرب منه سوى استقبال ملك الحبشة وبطانته للكراسي الكهربائية في بلد لم يكن قد خرج بعد من الظلمات إلى الكهرباء. وتلك قصة أخرى تستحق أن تُبكى. فخامتها، فخامة العربة تلك، ما إن وصلت القصر حتى تم استقبالها بتمهيد مدارٍ لها حوله، مدارٍ عرضه الأحصنة والعجلات. فكان أول طريق سيّار، وهو فعلا كذلك إذا ما قورن بتلك السبل التي عبّدتها النعال والحوافر.في تلك الأصائل البعيدة، أصائل مكناسة الزيتون، كانت محظيات السلطان ينعمن بنزهات حول القصر، فكانت اهتزازات العربة تسخينات لرهز الفراش. ولم يكن خبثا ولا حسدًا غمز الحريم من هذه القناة. فمن تَركب العربة أصيلا تُركب في السرير ليلًا، وليس عدد الراكبات بالعقبة التي يقف عندها حصان السلطان الذي سار بذكر فحولته الخصيان. فما أشبه اليوم بالبارحة، فحتى الآن ما إن تركب امرأة سيارة أحدهم حتى يتبادر السرير إلى الذهن. وكأنّ قدر المرأة، في هذه الرّبوع، أن تُشاهد راكبة فتبدو مركوبة، منذ الهودج حتى رباعية الدفع.حتى قبل عقود فقط، كانت معظم طرقات المغرب وسياراته في حالة تُعزى إليها كل الحوادث والأشلاء، فكان العنصر البشري يبدو ضحية، صادمًا أو مصدومًا. وقد شكلت خرداوات أوروبا والغش في الأشغال العمومية، زمانئذ، المشجب الواطئ الذي كانت تعلّق عليه كل القمصان المضرجة بالدم والإسفلت.فعلى أيّ مشجب غيره، سنعلق كل هذه الأرواح التي تزهقها سيارات من أحدث طراز في طرق سيارة حديثة الإنجاز؟ على أيّ مشجب غير العنصر البشري الذي بات من الحكمة ألا يتسلم رخصة السياقة، إلا بعد أن يخضع لفحص البصيرة قبل البصر، وألا يتسلم البطاقة الرمادية قبل أن يخضع للفحص التقني، في مراكز يشرف عليها علماء النفس وعلماء الاجتماع؟ فوحدهما، علم نفس السياقة وعلم اجتماع الطريق، يستطيعان تفسير بعض الظواهر والسلوكات الغريبة، التي أشهرها على الإطلاق تلك المتعلقة بمن يوسع غيره تنبيها، و يتجاوز كل من في طريقه تجاوزًا معيبا، وكأن موعده مؤتمر دولي، فإذا به ناشر رجليه، ولساعات، في سطيحة أول مقهى بعد الضوء الأحمر الذي لم يحترمه. ووحدهما، بعد توالي الدراسات والأبحاث الميدانية طبعًا، يستطيعان وقف إطلاق المنبهات والتخفيف من وطيس الطريق.الطريق السيّار ليس طريقا فحسب، إنه خارطة طريق أيضًا. وهو ليس فقط سبيلا متقدّما لسلوك العربات، بل هو كذلك مدوّنة متحضّرة لسلوك الإنسان. فعلامات التشوير وسدود الشرطة ورادارات المراقبة ومحطات الأداء… ليست سوى بنود تحكم علاقاتِ السائق بالطريق وغيره من مستعمليها، مثلما تحكم بنود سواها علاقاته بعيدًا عن المقود. فكما لا يمكنه القفز على محطات الأداء، لا يمكنه التملص من دفع الضرائب. وكما أن التجاوز المعيب والإفراط في السرعة يكلفانه غرامة، فالشطط في استعمال السلطة يكلف المنصب… وكما أن فإن: في الطريق السيّار كما في غيره من سبل الحياة. وهكذا أضحت الحقوق والواجبات مثل فلقتيْ ثمرة نضجت خلال دهور تمتد من قانون الغاب حتى آخر التشريعات التي جعلت الحياة سيّارة كما هو جدير بالإنسان السيّار.لقد فشلت الحياة في المغرب في أن تكون سيّارة، فكيف ينجح الطريق في ذلك؟ خصوصًا بعد أن لم يعد السير يستهوي الكثير من المغاربة وقد جربوا القفز ومزاياه، فأصبح التزوير والرشوة والمحسوبية والغش والتهرّب الضريبي واحتلال الملك العمومي وسوى ذلك من أنواع القفز أساليب حياة، مثلما هو التجاوز المعيب وعدم احترام الأسبقية وإشارات المرور… أساليب سياقة. وكما أن لهذه ضحاياها من مختلف الأرواح والإعاقات، فإن لتلك حوادث تَجِلُّ خسائرها عن التقدير.
يتوفّر المغرب الآن على حظيرة سيارات لا تقل في شيء عن نظيراتها في الدول المتقدمة، بما فيها تلك التي جاءت منها عربة المولى إسماعيل. بل إن بعض هذه الدول أصبحت تنشئ لها مصانع على أرضه لصناعة وتركيب سياراتها، لِما يوفّره لها من مهندسين وعمال وتقنيين. أما شبكة طرقه فقد تطوّرت بما لا يوصف مقارنة مع ما كانت عليه قبل عقود فقط. وحده العنصرالبشري، في معظمه بكل أسف، ما زال يجلس إلى المقود بأطراف كتلك التي حملت العربة الأولى من شمال المغرب إلى عاصمته. فوحدهم المغاربة حملوا العربة قبل أن تحملهم.
