آخر الأخبار

الأغنية المغربية تحتاج إلى مؤلف و ملحن و مطرب

إدريس الأندلسي 

نسي مسؤولو التلفزيون المغربي ، و معهم وزارة الثقافة و ذات مهام أخرى كبرى، أن فن الغناء ليس فقط أداء صوتيا معزولا، و لا كلاما منثورا، و لا لحنا سابحا في خيال و مفتقدا لرواسي تطمئن لها الأفئدة و القلوب. الأغنية المغربية، كغيرها، بناء جماعي ذو هوية ، يحميها وعي ثقافي عميق كعمق تاريخ الوطن. كثر الصخب و كثرت الايقاعات التي تشبه آثارها على الأذن انفجار الألعاب النارية و تحولها إلى ” لا شيء”. هل تتذكرون روائع ” الشاطئ ، و حبيب الجماهير، و القمر الأحمر، و راحلة… كثير يتذكرون الجمال في عهد الجمل اللحنية و الشعرية. و كثير لا يتذكرون أغنية لا يزيد عمرها عن سنة. هل نسي أحد أغاني عبدالصادق الشقارة أو المبدع رويشة أو الحاجة الحمداوية. الحضور يستمر بالتحكم في مفاتيح الدخول إلى قلب ثقافة المغاربة، و ليس بتهييجهم بإيقاعات و كلمات تخاطب أجساد بعضهم ، و توجههم نحو قبول الرداءة في كافة تمظهراتها المسماة اعتباطا “موسيقية”. ويظهر أن المسؤولين على القطاع الثقافي فضلوا، منذ سنين، و لا زالوا يفضلون التنازل عن سمو الإبداع و تشجيع الهبوط إلى ثنايا ” القاع” .
قيل أن الفنان الكبير أحمد البيضاوي علق، و هو آنذاك رئيس لجنة قبول إذاعة الأغاني بالإذاعة المغربية، بعد سماعه لأغنية ” حليم المغرب” الراحل الحياني ” ياك الجرح برا… و قلت لابأس القبل أنساه”، أن هذه هي الأغنية مغربية، و هكذا يجب أن يتعامل الملحن مع الايقاعات المغربية، و مع ما تتيحه موسيقى بلادنا من جمل لحنية استثنائية. تعبير الموسيقار أحمد البيضاوي كان صادقا. و قد خلق هذا الماضي الجميل حوافزا فنية أعطتنا عمالقة في مجال التلحين و التوزيع الموسيقى. كان من أوائل المبدعين في مجال الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي، و عبد القادر الراشدي و عبد الرحيم السقاط، و محمد بن عبدالسلام، و القدميري، و إبراهيم العلمي و فويتح و عبد الله عصامي و عبد السلام خشان و العربي الكواكبي ، و كثيرون ممن سكنهم و يسكنهم إيقاع مغربي ممزوج بلغة موسيقية أصلها من رمال الصحراء، و سموها من جبال الأطلس و عبيرها من نسائم كل هضاب و سهول الوطن. اعتبر هؤلاء المبدعين أن مسؤوليتهم الفنية تحتم عليهم انخراطا غير مشروط في الدود عن حمى الوطن سياسيا و اقتصاديا و سياحيا و ثقافيا.
كانت الأغنية المغربية تصنع بكثير من الحب و الإخلاص، و لا زال بعض الملحنين يقاومون الرداءة في مجال فقير ثقافيا و موسيقيا يسيطر على ” سوق التفقير الموسيقي”. حاولت القناة التلفزية الثانية خلق جو التنافس في مجال الأداء سواء تعلق الأمر بالأغنية الكلاسيكية العربية أو المغربية، قبل أن تبحث عن الأضواء من خلال عن ” الأغنية المرتبطة بالعيطة”. نجح التنافس و فاز من فاز بلقب فارس هذا النوع من الأغنية. و يبقى أن هناك غياب كبير للتعامل مع الأغنية المغربية كمنظومة ثقافية تعبر عن مجتمع و تاريخ و حضارة.
حاول أحد وزراء الثقافة قبل أربعة عقود تنظيم مسابقة في مجال الأغنية ، و كانت مبادرته فرصة لإعادة الوهج للأغنية المغربية. و كان من نتائج هذه المسابقة تألق رائعة عبد الوهاب الدكالي ” كان يا ما كان “. تتبع المغاربة حفل التتويج و كانوا متفقين على إختيار أغنية ايقظت فيهم حب الإبداع الموسيقي. و جاءت بعدها أغنية ” يا جار وادينا التي ادتها الراحلة رجاء بلمليح ، و ألف كلماتها الشاعر محمد حاي و لحنها القدميري. و أحرز، الراحل عموري امبارك، المرتبة الثالثة بأغنية امازيغية جميلة. و قامت وزارة الثقافة بتنظيم مسابقة ثانية، و توقفت المبادرة التي كانت تحتفل بالشاعر و الملحن و المغني .منذ تلك الأيام الجميلة لم تعط الأغنية المغربية ، التي كانت تسمى عصرية ، ما تستحقه من تقدير و تأطير و تأمين. كان من الممكن أن أجزم على أن الأغنية المغربية الأصيلة قد غابت و أصبحت في عداد المفقودين بعد أن سيطرت الايقاعات “المسماة شعبية” على الجملة اللحنية و الشعر الغنائي ، ولكن الأمل في الإبداع لا زال موجودا. و رغم هذا التيار الجارف، صمدت الكفاءات الموسيقية ذات الحمولة الثقافية التي تسمو بالمستمع ، و رحل المبدع عبدو الشريف الذي كان يتقن حمل سحر الأغنية ، و استمر نعمان لحلو في التغني بالبلاد، و استمر البشير عبدو في أداءه كأجمل الأصوات، و لا زال الزبادي يساهم في الحفاظ على أصالة الأغنية العربية. و كثير هم من سبحوا ضد تيار جارف تكمن قوته في فقره الموسيقي و الأدبي. و لهذا أصبح من الواجب على التلفزيون العمومي الانتقال إلى تنظيم مسابقات تمزج بين عطاء شاعر، و إبداع ملحن و أداء مغني. إن سألتم عبد الوهاب الدكالي عن سر نجاح أغنية ” كان ما كان ” ، فسيجيبك بأن الأمر يتعلق بالهام سحر لب الشاعر الباتولي في حضرة حكواتي في ساحة جامع الفنا . و وصلت كلمات الشاعر إلى قلب ملحن، ثم اخترقت الميدان أوتار عود و كمان لتصوغ جوهرة ناصعة لا زالت تتملك قلوبا و أفئدة. و إن سألتم نعمان لحلو عن سر تلك الجملة الموسيقية التي غرست شفشاون النوارة في قلب المغاربة، لقال لك أن الإلهام مرتبط بحب الوطن ، و بالعمل المضني و بالبحث المتواصل. و إن سألت الملحن مولاي أحمد العلوي، فسيبسط أمامك ثقافة ايقاعية و لحنية لا زالت تسكنه رغم سيطرة بعض المنتجين على مصير تسويق الأغنية المغربية العصرية. و إن سألت كل من صنع التميز المغربي، لقال لك أن الفن كان موهبة و ثقافة و رغبة في حب الجمال و كثير من التواضع من أجل خلق ” ساعة سعيدة. ما تباع بأموال… و ضوا المكان و الفرحة تهني البال… و بال حبيبي سحر و جمال”.
لا يجب أن يفهم من هذه السطور أن كاتبها يدعو إلى ” سلفية” غنائية و تقديس لفعل السلف الصالح في مجال إبداع أغاني لا زالت تؤثث الحفلات و الأعراس و تدخل البهجة في النفوس. يتعلق الأمر بمساهمة المؤسسات المسؤولة على الثقافة، و كذلك الفنانون في مشروع يعيد الجمال، و التجذر في ذاكرة المغاربة. أسمع بشغف لبعض الأغاني المغربية الجديدة، و جزء منها يطربني، لكن كثير منها يطويه النسيان بسرعة قياسية. يعتبر البعض أن كلمات الأغاني اليوم مغربية، و مرغوب فيها من طرف ” الشباب ” . و أظن أن العكس هو الصحيح . جمال الكلمة يدخلها قاموس التعبير في كثير من المجالات، و يقيها من التفاهة التي تترجمها ، في بعض الأحيان، كلمات ساقطة و مغرقة في سوقية مبتذلة . و هناك فرق كبير بين الأغنية الشعبية و الأغنية التي تأخذ الايقاعات الشعبية و تضع عليها كلاما غير ذي قيمة فنية. لا زال الملحون و العيطة و الطرب الجبلي، و طرب الآلة يزخر بكلام و ألحان غاية في الجمال و الصنعة. يقول بعض ممن يعتبرون الموسيقى تعبيرا إنسانيا متنوعا عن الجمال، و يحلمون بجلسات، و حفلات موسيقية كتلك التي ينظمها المبدع بودشار في المغرب، أو تلك التي تجمع الآلاف حول روائع الموسيقى الكلاسيكية التي تحييها كوكبة من الموسيقيين تحت قيادة الهولندي ” اندري ريو” ، أن الفن الراقي يبقى و يغرق غيره في غياهب النسيان. لم ينس الآلاف الذي يحضرون حفلات بودشار ” سولت عليك العود و الناي” أو ” قطار الحياة” أو الله الله يا ذاك الإنسان ” أو ” ما أنا إلا بشر ” أو ” العيون عينية” أو ” الهمامي” و اللائحة طويلة. و لهذا وجب أن نحتفل بالفنانين من ملحنين، و شعراء، و موزعين، و عازفين و مغنين لكي يظل الإبداع حاضرا في حياتنا.