آخر الأخبار

إيف سان لوران مصدر الموضة العالمية

مصمم الأزياء العالمي إيف سان لوران، مراكش مصدر إلهام للموضة العالمية

* عبد الرزاق  القاروني

   إيف سان لوران من أشهر مصممي الأزياء العالميين، أغرم بالمغرب، فجعله موطنه الثاني، يأتي إليه للاستجمام، وبحثا عن الإلهام، فكانت مراكش مسقط القلب وبهجة الروح، التي عاش فيها، ما يزيد عن أربعة عقود، منبهرا بالضوء، ومستكشفا الألوان الزاهية التي تزخر بها المدينة والنواحي.

 

انتماء عريق

   ولد إيف هنري دونات ماتيو سان لوران، الملقب اختصارا بإيف سان لوران، يوم 01 غشت 1936 بوهران بالجزائر، التي كانت، وقتئذ، ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي الغاشم.

   وينحدر هذا المصمم العالمي من أسرة فرنسية عريقة تنتمي لمنطقة الألزاس. كان أبوه شارل، رئيس شركة للتأمينات، ويمتلك سلسلة من دور السينما بدول المغرب العربي، وقد ورث عن أمه، لوسيين، ذات الأصول البلجيكية، اهتمامه بالموضة، إذ منذ طفولته كان يجد متعة في تصميم الدمى الورقية.

   ولصقل موهبته وتعزيزها بتكوين أكاديمي، درس هذا المبدع، سنة 1954، بمدرسة الغرفة النقابية للموضة الباريسية، ما أهله للحصول، في هذا المجال، على الجائزة الأولى في مباراة الكتابة الدولية للصوف، بذات السنة. وفي السنة الموالية، قدمه ميشيل دو برونهوف، مدير النسخة الفرنسية للمجلة الأمريكية “فوك”، التي تعنى بالموضة وأسلوب الحياة في العالم، لمصمم الأزياء الفرنسي كريستيان ديور، الذي شغله مساعدا له.

   وبوفاة هذا المبدع، سنة 1957، الذي يعتبر أشهر مصمم للأزياء في العالم، بعد الحرب العالمية الثانية، ورائد تيار المظهر الجديد في الموضة، أصبح سان لوران المدير الفني لدار الموضة “ديور”، حيث حقق نجاحا منقطع النظير، سنة 1958، بمجموعة أزياء “ترابيز”، شبه المنحرف، التي صممها، وشكلت قطيعة مع الملابس ذات الخصر الضيق، لكن ما لبث أن فصل من عمله، سنة 1960، جراء التحاقه بصفوف الجيش الفرنسي، إبان ثورة التحرير الجزائرية.

أمير الإبداع

   حتى يحظى بالاستقلالية، والاستقرار المهني، وليتيح لنفسه التحليق في عوالم الإبداع الرحبة، أسس سان لوران، سنة 1961، دار أزياء خاصة به بباريس، بتعاون مع شريكه بيرجي، وبدعم مالي من المليادير الأمريكي جي ماك روبينسون. وقد أنجز علامتها التجارية الفنان والكرافيست الفرنسي كاساندر، وكان لهذه العلامة مستقبل باهر بأحرفها السوداء الثلاثة المتداخلة، التي هي الأحرف الأولى لاسم صاحبها، والتي ترمز إلى الأناقة بالصيغة الفرنسية، في أبهى صورها.

    وفي هذا الفضاء الراقي بعاصمة الأنوار، جدد هذا المبدع أساليب الموضة العالمية، عبر تحرير لباس المرأة ليصبح أكثر مرونة، وفي تناغم تام مع روح العصر، وذلك من خلال ملابس أيقونية دالة عليه، مثل السموكينغ والسترة الصحراوية، علاوة على المعطف القصير. وفي هذا الصدد، يقول، رفيق دربه بيرجي: “طوع سان لوران عصره كليا. الكل لديه شيء من سان لوران دون أن يعرف. لقد أوجد العالم الذكوري وألبسه للمرأة”.

   وبذلك، يعتبر هذا المبدع فارس الموضة الراقية، الذي أنزلها من برجها العاجي لتساير متطلبات العصر، وجعل الإبداع، في هذا المجال، يرقى إلى مصاف الفن، ما حذا بالصحفية والناقدة الفنية الفرنسية جولي شيزمرتان لتلقبه بأمير الموضة، لكونه أعطى الشيء الكثير، وغير الأذواق والعادات، بخصوص اللباس الأنثوي.

   وصمم سان لوران أزياء العديد من مشاهير العالم، من بينهم: الملكة نور من الأردن، وفرح ديبا، زوجة شاه إيران، وليليان، أميرة ريثي، والدوقة الكبرى جوزفين-شارلوت من لوكسمبورغ، والأميرتان جريس وستيفاني من موناكو، وسارة دوقة يورك، والروائية الفرنسية مارجريت يورسنار، أول مرأة تنضم إلى الأكاديمية الفرنسية. كما ألبس العديد من الممثلين والفنانين العالميين، مثل: كاترين دونوف، وجون ماري، وزيزي جونمير، وأرليتي، وجان مورو، وكلوديا كاردينالي، وصوفيا لورين، ورومي شنايدر، وإيزابيل أدجاني، وسلمى حايك، وكاري موليجان، وكيت وينسليت، إضافة إلى كيم كاردشيان.

   لقد كان هذا الفنان يقول: “ارتداء الملابس هو أسلوب حياة”، و”إن كل إنسان يحتاج إلى أشباح جمالية”، حيث كان، دائما، في بحث متواصل عن الجديد، يستشرف عوالم مغايرة في الموضة، لا يركن للسهولة، بل يحرص باستمرار على تجاوز نفسه، لأن من لا يتقدم، يتأخر.

   ويعتبر سان لوران من أول مصممي الأزياء في العالم، الذين استعانوا بخدمات عارضات أزياء سوداوات، وهن: فيدليا وكتوشا نيان، وأماليا فيريلي وبات كليفلاند، وربيكا أيوكو، إضافة إلى إيمان.

   ونظرا لحسه الإبداعي المرهف، قام هذا المبدع المجدد، عبر مجموعات أزيائه الراقية، بتكريم واستحضار اللمسات الفنية لعدد من رموز الفن العالمي، نذكر من بينهم: موندريان وبيكاسو، ودياغيليف وماتيس، وكوكتو وبراك، علاوة على فان كوخ وأبولينير.

   وكان سان لوران من المعجبين بالكاتب الفرنسي مارسيل بروست، صاحب أطول رواية في العالم الموسومة بـ “البحث عن الزمن المفقود”، حيث يقول، في هذا الصدد: “بروست هو الشخص الذي تشبه حياته قليلا حياتي”. لقد كان متأثرا بأعماله، أكثر من تأثره بحياته، حيث كان يجد ذاته في هذا الكاتب، من خلال طريقته في الحديث عن النساء، ووصف فساتينهم، إضافة إلى رسم طباعهن. وذات مرة، قال هذا المبدع: “علمني مارسيل بروست أن عائلة المتوترين الرائعة والمؤسفة هي ملح الأرض. وقد كنت، بدون علم مني، جزءا من تلك العائلة”، مضيفا، بخصوص هذا الكاتب: “أنا أفهم بروست جيدا، أنا معجب بما كتبه عن بؤس الإبداع”. أكثر من ذلك، لقد كان يزين مكتبه بباريس بمقولات معبرة، مأخوذة من مؤلفات الكاتب، ويستعير اسم سوان، أحد أهم شخصيات هذا المبدع، لحجز الغرف بالفنادق، عبر العالم.

   وبعد مسار إبداعي حافل بالإنجازات المتميزة، والذي كان موضوع عدة مؤلفات وأفلام سينمائية، اعتزل سان لوران عالم الموضة، سنة 2002، جراء ظروفه الصحية القاهرة. وتوفي، يوم 01 يونيو 2008 بشقته، الشبيهة بالمتحف، بباريس، وبوصية منه، تم نثر رماده بحديقة ماجوريل، التي تضم مسكنه الثاني بالمغرب. وبهذه المناسبة، قال جاك لانك، وزير الثقافة الفرنسي السابق: “أنا سعيد للغاية، لأنه اختار مراكش، هذا مكان ساحر يرقد فيه إلى الأبد”.

مراكش مصدر إلهام

   حينما زار سان لوران مراكش، رفقة شريكه بيرجي، أعجب بثراء ثقافة هذه المدينة، وجمال فضاءاتها، ما جعله يقتني بها منزل “دار الحنش” بحي باب دكالة، سنة 1966، الذي كان يأتي إليه، بصفة منتظمة، خصوصا خلال شهري دجنبر ويونيو من كل سنة، لإنجاز تصاميم مجموعات ألبسته الراقية المستقبلية، لكن ما لبث أن باع هذا المنزل لصديقه مصمم الأزياء الإسباني فرناندو سانشيز.

   وسنة 1974، اقتنى فيلا دار السعادة بحي جليز. وخلال سنة 1980، اشترى سان لوران، رفقة شريكه بيرجي، حديقة ماجوريل بذات المدينة، التي كانت مهددة بالاندثار، جراء المضاربات العقارية، التي تروم تحويلها إلى مركب فندقي. وبفيلا الواحة بهذه الحديقة، كان يقضي أوقات ممتعة لتجديد الطاقة. 

   وقد وصف هذه المدينة قائلا: “مراكش، بالنسبة لي، الجنة”، مضيفا: “قبل مراكش، كان كل شيء أسودا، علمتني هذه المدينة استخدام الألوان”. كانت مراكش مسقط القلب، ومصدر إلهام لهذا المبدع، حيث مكنته من استخدام ثنائية الضوء واللون، بشكل جيد ومغاير. فمنذ أن وطأت قدماه أرض هذه المدينة، انبهر، إلى حد الافتتان، بقوة الضوء، وانعكاساته الجذابة على ألوان ملابس المراكشيين، وكذا بالأزقة والأسواق التقليدية للمدينة، ما يحدث ظلالا ومزيجا من الألوان يدمجها في مجموعاته. وفي الفيلم الفرنسي الموسوم بـ “إيف سان لوران، كل شيء بشكل رهيب”، من توقيع المخرج جيروم دو ميسولز، سنة 1994، يحكي هذا المصمم العالمي كيف بدأ يبدع باللون، بفضل المغرب، خصوصا مراكش. وهذا الأمر يؤكده ستيفان جانسون، هو الآخر مصمم أزياء فرنسي، وصديق لسان لوران، بقوله: “أعجبه أسلوب حياة المغاربة وإيقاعاتهم وإيماءاتهم، وخلال زيارته الثانية لمدينة مراكش، كان يعمل على مجموعة أزياء جديدة، فوجد أن قوة وجودة الإضاءة في هذا البلد تجعلانه يرى الألوان، بطريقة مختلفة”.

   لقد كان سان لوران يقوم بعمليات مزج جريئة للألوان في بعض إبداعاته، وكان لمراكش تأثير واضح في ذلك، حيث كان يمزح البرتقالي بالليلكي، والوردي بالأحمر، مما أكسبه سمعة امتلاك أفضل إحساس بالألوان في القرن العشرين.

   كما كان يعشق الترويح عن نفسه بين معالم هذه المدينة التاريخية وفضاءاتها الجميلة، وفي هذا الإطار، يقول بيرجي: “في شبابه، كان إيف يحب الذهاب إلى الأسواق، والتجول في ساحة جامع الفنا الشهيرة، وكان البهلوانيون ومروضو الثعابين وراقصو كناوة يسحرونه”. لقد كان سان لوران مراكشيا ومغربيا حتى النخاع، يعشق الطبخ المغربي، ويرتدي اللباس التقليدي لهذا البلد، خصوصا عندما يخلو بنفسه في مسكنه، لشعوره بأريحيته وملاءمته لمثل هذه المناسبات.

   إلى ذلك، لقد كان هذا الفنان محاطا، بهذه المدينة، بكوكبة من الأصدقاء من مشاهير العالم، الذين يزورونه، من حين لآخر، نذكر من بينهم: بيل ويليس وفرناندو سانشيز، وبول كيتي وأندي وارهول، إضافة إلى ميك جاغير.

متحف الذكرى

   متحف إيف سان لوران بمراكش، التابع لمؤسسة بيير بيرجي وإيف سان لوران، والمنجز من طرف  المكتب الهندسي “استوديو كو” بباريس، فتح أبوابه يوم 19 أكتوبر 2017، بعد تدشين توأمه بباريس بأيام قليلة، وتضم هذه المعلمة الثقافية والسياحية المتميزة، إضافة إلى مجموعة من المرافق، فضاء للعرض الدائم لأعمال سان لوران، الذي يحتوي على آلاف الألبسة والأكسسوارات الراقية، والرسومات والتصاميم، الخاصة بهذا المبدع العالمي.

   وعن إحداث هذا المتحف، يؤكد بيرجي: “حين اكتشف إيف سان لوران مراكش، سنة 1966، كان الافتتان من القوة، بحيث إنه قرر، على الفور، اقتناء منزل بها، والعودة لزيارتها، بشكل منتظم. ومن تمة، من الطبيعي أن يتم، بعد خمسين سنة من ذلك، تشييد متحف بها، يكون مكرسا لأعماله، التي تدين بالشيء الكثير لهذا البلد”، موضحا “أن هذا المتحف يشكل أكثر من مجرد متحف لمصمم الأزياء الشهير، إنه بمثابة مركز ثقافي كفيل بتسليط الضوء على جانب مهم من ثقافة المغرب”.

   وأثناء تدشين هذا المتحف، صرح محمد الأعرج، وزير الثقافة والاتصال السابق، إنه يعتبر معلمة متميزة، من شأنها الإسهام في تعزيز الإشعاع الثقافي والتراثي للمغرب.

   ومن جانبه، أوضح بجورن داهيستروم، مدير هذه المؤسسة وقتئذ، أن هذا المتحف هو الأول من نوعه بإفريقيا الذي يعنى بالموضة، والمخصص للمصمم الراحل، الذي عرف بعشقه وولعه بمدينة مراكش الساحرة.

   وتكريما للمبدع الراحل، وتعريفا بمنجزه الغني والقيم، في مجال التصميم، يحتضن هذا المتحف ما بين 04 مارس 2023 و28 يناير 2024 معرضا استيعاديا، تحت عنوان “إيف سان لوران: ملامح البورتريه”، الذي يستعرض ويحتفي بالمتن الفني للأعمال الخطية التحضيرية لمصمم الأزياء الراحل، خصوصا تلك المستلهمة من أجواء وفضاءات المدينة الحمراء.

   وبعد رحيل هذا المصمم الشهير، فإن أحسن شيء تركه لمراكش، التي أحبها وألهمته، هو هذا المتحف الذي يختزل مسيرة حياته، ومسار إبداعه، وحديقة ماجوريل، التي تحتضن ذكراه بحديقة الورود، وجزءا من ذكرياته بفيلا الواحة.

* صحفي وباحث مغربي