يبدو أن المشهد السياسي المحلي في المغرب بات يعرف مصطلحًا جديدًا، يتداول بين المتتبعين والفاعلين، هو “أسلوب السرعة النهائية“. هذا المفهوم النقدي، الذي صار يُستعمل لوصف السلوك المتكرر للمجالس المنتخبة في سنتها الأخيرة من الولاية، يحيل إلى تلك الانتفاضة المتأخرة التي تصيب الجماعات بعد سنوات من الجمود، فتسارع إلى إطلاق المشاريع تباعًا في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من صورتها السياسية. وهو أسلوب لا يعكس دينامية تنموية حقيقية بقدر ما يُظهر ارتباكا في التخطيط وتهافتا على كسب الود الانتخابي.
من يتأمل المشهد المحلي في عدد من المدن المغربية، يلاحظ أن هذه الظاهرة تكاد تتحول إلى قاعدة سياسية غير معلنة. بعد سنوات من الصمت الإداري والبطء البرمجي، تستفيق فجأة أغلب المجالس الجماعية على إيقاع ورشات تبليط الطرق، وترميم الأرصفة، وتركيب الإنارة، وتجميل الساحات، وكأن التنمية اختُزلت في “المظاهر” لا في الجوهر. غير أن هذا الحراك المتأخر لا يُقرأ إلا في سياق سياسي نفعي أكثر منه تنمويًّا، إذ يفتقر إلى مقومات الحكامة الرشيدة ويفضح ضعف ربط المسؤولية بالمحاسبة، ذلك الشعار الذي طالما رفعه السياسيون وتغنّت به الحكومات المتعاقبة في خطاباتها الرسمية دون أن تترجمه إلى ممارسات مؤسساتية واضحة.
في مدينة مراكش، تتجسد هذه الظاهرة في أوضح صورها. فمن شارع علال الفاسي إلى شارع آسفي، مرورًا بـالداوديات، جليز، سيدي يوسف بن علي، المسيرة، المحاميد، تسلطانت، والشريفية… تعيش المدينة على إيقاع أوراش متزامنة، حفريات هنا وحواجز هناك، في مشهد يبدو للوهلة الأولى مؤشّرًا على حركية عمرانية، لكنه في العمق عمّق أزمة التنقل داخل المدينة الحمراء، وزاد من متاعب السائقين والراجلين على حد سواء. فلا شارع يكاد يخلو من الحفر أو الانقطاعات أو الارتباك في السير والجولان، حتى أصبحت الأشغال جزءًا من الروتين اليومي للمراكشيين.
وقد يبرر بعض المنتخبين هذه “الانتفاضة المتأخرة” بضرورة تهيئة المدينة لاستقبال التظاهرات الوطنية والدولية المقبلة، لكنّ هذا التبرير لا يصمد أمام واقع أن تلك التظاهرات كانت مبرمجة منذ سنوات، فلو وُجد تخطيط استراتيجي قائم على الاستمرارية، لما اضطرّ المجلس إلى هذا “الركض المتأخر”. غير أن المشهد يتكرر في نهاية كل ولاية، وكأن الذاكرة السياسية قصيرة المدى، تشتغل فقط عندما تلوح صناديق الاقتراع في الأفق.
ولعل هذا السلوك السياسي لا يختلف كثيرًا عمّا وصفه ألكسيس دو توكفيل حين قال: “يأتي السياسيون إلى الحكم وهم يظنون أن الحكم فنّ الكلام، ثم يغادرونه وقد اكتشفوا أنه كان فنّ الفعل.”
ففي غياب الفعل الحقيقي، تُستبدل التنمية بالواجهة، والمشاريع بالرُقع، والمحاسبة بالتبرير.
كما أن الفيلسوف جون لوك ذكّر قبل قرون بأن “السلطة التي لا تُحاسَب، تتحول حتمًا إلى أداة للاستغلال.” وهو ما نراه حين تُستغل أوراش التنمية العامة في الدعاية السياسية بدل أن تُسخّر لخدمة المواطنين على مدار الولاية.
وبصفتي متتبعًا للشأن المحلي، أرى أن أخطر ما في “أسلوب السرعة النهائية” ليس تأخره الزمني، بل ما يخفيه من غياب للرؤية والضمير السياسي. فحين تُختزل التنمية في سباق مع الوقت، يتحول العمل الجماعي إلى حملة انتخابية دائمة، تُنفق فيها الملايير لترميم ما كان يمكن تفاديه لو حضر التخطيط منذ البداية.
إن “أسلوب السرعة النهائية” ليس مجرد سلوك إداري متسرع، بل هو أزمة بنيوية في الثقافة السياسية المحلية، حيث تتحول التنمية إلى ورقة انتخابية، ويصبح المال العام وسيلة لتلميع الصورة بدل تحسين الواقع. وما لم تُترجم مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة إلى ممارسات ملموسة، ستظل المجالس الجماعية رهينة ردّ الفعل بدل الفعل، والعجلة بدل الرؤية.
ويبقى السؤال المفتوح أمام كل مواطن مراكشي ومعه كل مغربي:
هل ستستمر سياسة “السرعة النهائية” كقاعدة لتدبير الشأن المحلي مع اقتراب كل انتخابات، أم أن الاستحقاقات المقبلة ستفرز نخبًا جديدة تفهم أن التنمية الحقيقية تُبنى على التراكم والالتزام، لا على “السرعة النهائية”؟