أطفال النور رغم إعاقة. عمل تعاضدي جميل
و لا زال التقنوقراط يتجاهلون معاناة الأسر.
إدريس الأندلسي
يبدي كل المسؤولين، في خطبهم، إهتماما كبيرا بالأطفال، و حتى باليافعين ، ذوي إعاقة ، شاء القدر، أن يكونوا ممن دخلوا في غياهب مواجهتها. و تقف محددات الإهتمام من طرف نفس المسؤولين عند المقاييس المالية للتحملات، التي يضعونها كحد أقصى في تعاملهم مع الإعاقة. و هكذا تجد كثير من الأسر نفسها في حالة هشاشة أمام الإعاقة. و لا تغطي أنظمة التأمين الإجباري عن المرض سوى 20 % من تكلفة التمدرس و الرعاية الصحية لأطفال يجب أن لا تشمل مقاييس التعامل معهم مؤشرات مالية . يقع كل هذا رغم ما سطره الدستور من مبادئ لحماية الأطفال ذوي الإعاقة . و تتحول جهود الأسرة إلى البحث المضني عن وسائل لمواجهة تكاليف تسجيل أبنائهم في مؤسسات متخصصة . يكثر الكلام، و تظل المبادرات الجمعوية، و تلك التي تحملها مؤسسات قليلة، محدودة الفعل من أجل إحداث التغيير المنشود في مجال التعامل الحضاري مع الأطفال ، وخصوصا من يعانون ،منهم ، من أنواع مختلفة من الإعاقة.
و يجب أن يتم كشف الواقع، كما هو ، و كما شاء له أن يكون. و ان تكون الضربة الأولى موجهة إلى أسرة ذلك الطفل الذي أصابه القدر في إحدى قدراته النفسية أو الخلقية. تفكر هذه الأسرة في مواجهة هذه الوضعية، و تكتشف أن الواقع مر أكثر من مرارة العلقم. و لكن طرق مواجهة هذه الوضعية تحتم على الأبوين، إن كانت لهما القدرة، التضحية بالغالي و النفيس من أجل تحقيق بعض المكاسب لمواجهة الإعاقة. لا يمكن أن لا أربط بين هذه السطور، و بين ما عشته ، خلال حفل ، من دهشة أمام ما قدمه الأطفال و اليافعين المستفيدين من خدمات مراكز ” أمل ” التابعة للتعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية . تفجرت تعبيرات فنية أمام جمع كبير ضم جمهورا كبيرا من مناضلي العمل التضامني من المغاربة و إخوانهم الأفارقة.
كان الموعد مع جمع عام للتعاضدية في مدينة الحسيمة، و كذلك مع تجديد هياكل الإتحاد الإفريقي للتعاضد الذي يرأسه مولاي ابراهيم العثماني. كان الحضور الإفريقي كبيرا، و قد ضم أكثر من عشرين دولة. و كان الحدث الأهم هو مشاركة الأطفال، من ذوي الهمم، أو كما يسميهم المجتمع، ذوي الإعاقة. قدم هؤلاء، و الأمر يتعلق بأولاد و بنات ، لوحات فنية كان لها أثر كبير على إخوتنا الأفارقة، و على كل رؤساء التعاضديات، و على المئات من المهتمين بالشأن التعاضدي. تحولت ” الإعاقة ” إلى قدرة خارقة للتعبير عن الحضور. تكلم الأطفال بشكل يتحدى الإبداع في التعبير. رقصوا و تقمصوا أدوارا مسرحية لإبلاغ رسالة بسيطة الشكل، و عميقة المضمون. قالوا ” نحن موجودون ما دمتم هنا ” و أكدوا على ضرورة النظر إليهم بعيون لا تهتم بقدرتهم على تغيير الواقع.
لم أشهد قط ذلك المشهد الذي كان له وقع كبير في نفس المسؤولين التعاضديين الحاضرين. شاهدت، عن كثب، عيونا تخرج منها دموع حيرة و حسرة و كثير من الإحساس بضرورة الإهتمام أطفال عبروا بصدق عن حب لكل من عاملهم بمسؤولية و تقدير. لا يطلبون عطفا و لا مواساة، بل عملا تربويا يمكنهم من فتح أبواب المجتمع أمام كفاءتهم. قال رئيس التعاضدية العامة لموظفي الادارات العمومية التي تشرف على ” مراكز أمل ” أن الإهتمام بذوي الهمم مكلف، و وضح بالأرقام أن التكلفة تصل إلى حوالي 6000 درهم شهريا بالنسبة للطفل أو اليافع الواحد( تأطير و رعاية صحية و نقل و تغذية )، و أن التعاضدية لا تحصل كمدخول مقابل هذه الخدمة الا حوالي 40% من التكلفة أي 2300 درهم ( 1100درهم كمساهمة من طرف مؤسسة كنوبس، و 1200 كمساهمة من طرف الأسرة). و تظل الحكومات المتعاقبة، و النظرة المحاسباتية، و التكنوقراطية هي المسيطرة على محاكمة من يهتم بمحاربة الهشاشة الإجتماعية.
و وجب التذكير أن مراكز ” أمل ” تحاول أن تستجيب لطلبات تتجاوز الطاقة الاستيعابية لإمكانياتها. و تقف هيئات المراقبة بالمرصاد لإدخال مهمة إنسانية و حق دستوري، في ميزان توازن محاسباتي لكي تحد من إرادة المجتمع المدني للإسهام في توفير عرض تربوي و صحي لذوي الدخل المحدود. يقول التقنوقراطي أن من لا يملك المال الوفير، عليه أن يقبل بعواقب الفقر. يقع كل هذا في الوقت الذي تستفيد فيه فئات إجتماعية ” عليا ” من هدايا ضريبية و منح محفزة على للإستثمار، و رخص للصيد في أعالي البحار، وأرباح خيالية، و غير مبررة، في مجالات إستيراد اللحوم و المواد الطاقية و هوامش مربحة لتصدير ما تنتجه الأرض المغربية.
أدعو حكومة ” رجال التجارة في كل شيء” أن يبتعدوا عن تدبير الشأن العام. لقد أصابهم العمى في خلط السياسة بالتجارة، و الجهل بتدبير عقلاني للمصالح الإجتماعية. يتكلم الوصوليون، الذين دخلوا السوق بنفس ” أمارة بالسوء ” عن نجاح حكومتهم في إحداث تغيير. و ما التغيير سوى زيادة ثروات، و تهميش فئات إجتماعية. جعلني مشهد أطفال، ذوي إعاقة، أشك في أن هؤلاء التجار، الذين يحتقرون السياسة، يحملون هما، أو يعرفون ثقل هموم تتغلغل في جسم مجتمع يتوق إلى العدل الإجتماعي. ابتعدوا عن هذه البلاد التي كانت أكثر أمانا قبل أن تجثموا على صدور المواطنين. و لأن لم تبتعدوا فسلام على المستقبل… و لا يمكن أن تتحول مؤسسات حكامة و رقابة في مجال التأمينات إلى اعتبار الإقتصاد التضامني و الإجتماعي في مجال الحماية الاجتماعية، و المساهمة في دعم العرض الصحي غير متوافق مع قواعد التدبير الليبرالي الخاضع للسوق. إن وجود بعض التقنوقراط على رأس مؤسسات القرار في مجال التغطية الإجتماعية خطر على السلم المجتمعي. تهمهم مؤشرات مالية، و لا يهمهم مؤشر الولوج إلى العلاجات. يهمهم تدمير التعاضديات، و محو أكثر من قرن من تاريخها، و يختفون في لحظة أمام الأزمات الإجتماعية. يغتني التقنوقراط و يرحلون إلى الجنات الضريبية حين تسقط تحاليلهم المصطنعة أمام واقع صعب لا يرتفع. و يأتي النور على أيدي من يؤمنون بقدرة ذوى الإعاقة على خلق الأمل. أقول للتقنوقراط أن ملك البلاد فتح باب سكناه، حين كان وليا للعهد، لذوي الهمم بصدق، رغم ثقافة سلطوية كانت تحاول منع توسع الإهتمام بضحايا الإعاقة. قد يصاب رب أسرة بأزمة من جراء تعرضه لإعاقة أحد أبناءه. قد ينسى الجانب المالي، و لكنه لن ينسى عبئ التحمل الطبي و التربوي للإعاقة. قد يكون من ذوي الاختيارات التي لا تعير للتضامن أية قيمة. و قد تفعل فيه الظروف فعلها، فتجعله كائنا آخر يحتاج إلى بنيات تعاضدية تحميه من أسواق يحمها منطق الأرباح الطائلة التي جعلت من مهنة الطب مصدر مراكمة ثروات كبرى كبرى. و لا يتقي ممن يراكمون الأموال على حساب صحة المواطن إلا من رحم ربي. و ستظل الدولة هي المسؤولة على تنزيل الدستور، تأصيل الفعل التضامني في مواجهة الهشاشة الإجتماعية. و يجب أن يعتبر كل معاد لروح الدستور في هذا المجال معاد للوطن.
