آخر الأخبار

أشباه السياسيين  يقتلون ذاكرة مدن بلادنا 

إدريس الأندلسي 

بدأ موضوع المحافظة على ذاكرة مدننا  و خصوصا منها تلك التي توصف بالعريقة منذ عشرات السنين. ظن الكثير من أصحاب القرار أن الأمر يحتاج إلى المال فقط  و بعض الخبراء.  كان مصير هذه النظرة الفوقية  و البسيطة،  لأمور تتطلب علم المؤرخ  و نظرة علم الإجتماع  و الخبير المعماري  و المثقف الملتزم و غيرهم من الجادين  ،تعثر الكثير من مشاريع إعادة الاعتبار لمكونات حضارية سكنت من أسسوا مدننا   و وضعوها على خارطة الثقافة الإنسانية. الشيء الوحيد الذي نجح نسبيا هو تحويل رياضات  و منازل قديمة إلى منتوج سياحي مذر للدخل. 

مددنا العتيقة رأسمال ثمين لقي رعاية ملكية  منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن.  المشكل في الاخفاق ليس ماليا  و لا في غياب المعطيات التاريخية كعنصر لإعادة احياء أمكنة تاريخية تحمل ذاكرة هي في البدء  و في العمق رأسمال لامادي ينير طريق أجيال من المغاربة في يومنا هذا  و في غدنا الذي نريده أن يكون مشرقا . نريده أن يكون نبراسا في مجال الإقتصاد الثقافي  و ليس مجالا لتمرير قرارات حول صفقات من طرف أميين ابتلينا بهم عبر انتخابات لا يدخلها، في الغالب،  صاحب الفكر  و ممتهن البحث العلمي  و ذلك الذي لا قدرة له على مقارعة خبراء المعارك الانتخابية.  و تسند الأمور الخاصة بذاكرة المدن إلى من يضحكون بصراخ جامح حين يتعلق الأمر بقضايا الثقافة. 

بدأت سياسة إعادة هيكلة المدن العتيقة  و أشرف عليها ملك البلاد بكثير من العزم  و الإلتزام  و النزول إلى الميدان. من سمحت له الظروف لوضع إقتراح مبني على معطيات صلبة بين يدي عاهل المغرب لا ينسى أن إقتراحه نوقش  بجدية  و قوبل برأي  و قرار إيجابي جدا.  وضعت برامج لإعادة الروح للمدن القديمة  و حرص الملك محمد السادس على التنقل إلى الكثير من المدن  و تم رصد الميزانيات  و لكن النتائج ظلت  في بعض المدن دون مستوى الرغبة الملكية في تسريع مسلسل إعادة المدن العتيقة لتصبح منبعا لخلق الثروات المادية  و اللامادية. 

و لنرجع إلى قراءة أسباب النجاح  و مسببات الفشل. السبب الأول هو ضعف أو قوة الإشراف على التخطيط  و التنفيذ. في مدن طنجة و تطوان اوكلت وزارة الداخلية عبر الولايات مهمة الإنجاز إلى وكالة تنمية الشمال  و كان المشروعان على موعد مع الإنجاز. مدينة طنجة نجحت في تنزيل النظرة الملكية بامتياز.  كانت البداية استماع إلى أهل العلم  و المعرفة التاريخية في مستواها العمراني. كانت عدة أحياء محجوبة عن النظر  فجاء مشروع فتح الواجهة الشمالية لطنجة عبر طريق كبير يكشف عن وجه المدينة من حي الدرادب إلى القصبة مرورا بحي مرشان . من يتجول على الكورنيش الممتد من شاطىء مرقالة إلى غاية الميناء يكتشف كنوزا معمارية لم تراها الأعين قبل إعادة الاعمار. يوم طنجة  و ليلها حفلة تحفها الأنوار  و يحبها الزوار.  ونفس النجاح عرفه المشروع التكميلي لإعادة هيكلة مدينة تطوان الذي تميز بشموله لعدة أشغال همت الطرق داخل المدينة  والمساجد العتيقة  و الأسواق  و الدور الآيلة للسقوط و الساحات. 

 من زار مدينة أصيلة  و ترجل عبر الطرق المجاورة لسورها يعرف أن الثقافة  و أهلها سهروا على توهجها  و صحوتها الجمالية.  و قد تطلب أمر هذه المدينة نفسا طويلا كان له الأثر الكبير على احدات تغيير في التعامل مع الرأسمال المعماري  و الثقافي للمدينة. 

العراءش  لا زالت تعيش عزلة منذ سنين  و تنتظر صحوة تعيد نشوة التمتع بجمال معمارها. مرت مجالس ترابية بألوان سياسية مختلفة  و ظلت هذه المدينة مجرد سجل لتصريحات  و وعود انتخابية منذ عشرات السنين.  و نفس الأمر يهم مدنا مثل ازمور  و الجديدة  . جاء أناس إلى ميدان التدبير الوزاري  و الترابي  فخلطوا بين تسيير الصفقات العمومية  و بين الفهم الثقافي العميق لتاريخ  و مسار مدن.  حين تتعرض مآثر تاريخية لهجوم أسمتني يسكت أصحاب القرار  و يعتبرون رأي  و احتجاج المثقف  و المناضل من أجل الذاكرة التاريخية مجرد حقد على ” نخب” تضع تصريف المياه العادمة فوق الآثار التاريخية في لائحة الأشياء العادية جدا. و كان التحرك الذي قامت به جمعيات حماية الذاكرة بالمغرب  سببا في دق ناقوس الخطر حول مصير المأثر التاريخية  و بنيات المعمار التاريخي.  و قد تابعنا ما حصل في مدينة أسفي جراء محاولة الاعتداء  على معلمة قصر البحر.  تحركت الجمعيات  و الجسم الصحافي  و وجد هذا التحرك تجاوبا من طرف وزارة الثقافة  و تم تسريع خطة تمويل إعادة تأهيل القصر المذكور  و يظل موضوع إعادة تأهيل  و إعمار المدينة العتيقة لأسفي معلقا. دور قديمة آيلة للسقوط  و ازقة تتدهور  مؤسسات تاريخية يطالها الإهمال.  الأمر يتطلب تكوين لجنة خبراء  و وحدة للتنفيذ مسلحة بالخبرة  و التأطير المؤسساتي الفعال.

زار وفد من جمعيات حماية ذاكرة مدننا منطقة الأندلس  و تأكدوا حرص مدبري الشأن الثقافي بهذه المنطقة كبير جدا في مجال الحفاظ على كل مكونات ماضيهم. كل هذا يقع في الوقت الذي تضع فيه حكوماتنا ميزانيات كبيرة تحت تصرف من لا يفقهون في التاريخ  و لا في  حمولة المعمار.  اختلطت الأمور حتى أصبح التقني البسيط يطغى على المؤرخ  و العارف بالمكونات الثقافية لرأسمال البلاد. لو ترك الأمر للبسطاء معرفيا لانهارت رموز معمار الرباط  و لانهارت معلمة لوداية بحديقتها الأندلسية  و مقهاها الفريد من نوعه.  مراكش لم تعش نهضة احياء الذاكرة بالشكل المطلوب لأن تدخلات من لا يفقهون في أمور الذاكرة  و الثراث  كانت قوية في مجال القرار.

آسفي المدينة التي وصفها كبار المؤرخين بعاصمة المحيط استسلمت إلى قرار أشباه السياسيين الذين قطعوا اوصالها.  تم الترخيص بالبناء فوق مناطق تاريخية تحمل تحتها كنوزا تشهد على تاريخ ممتد في القدم.  آسفي العاصمة لها من المقدرات ما يجعلها  في قمة المدن المطلة على المحيط الأطلسي.  و للتذكير فرحلة راع الأولى  و الثانية  و التي مضى عليها الكثير من العقود انطلقت بمباركة ملكية  و متابعة دولية من هذه المدينة. هذه المدينة التي تحمل ارثا تاريخيا كبيرا لا زال ينظر إلى إعادة تأهيلها بمنظار بعض صغار التقنوقراط  و ليس بوعي المؤرخ  و المهندس المعماري المثقف  و تصور الباحث الإجتماعي.  إعادة هيكلة مدينة قديمة قضية سياسة عمومية تحتاج إلى الكفاءة  و القدرة على المتابعة  و خصوصا إلى التقييم الصحيح. 

حين يصبح من لا زال محتاجا إلى محاربة الأمية الآمر  و الناهي بإسم حزب  و في مجلس ترابي  في كل القضايا،  فلنعلم، بكثير من اليأس،  أن الديمقراطية تحتاج إلى الكثير من الوصاية من طرف الدولة.  هذا الاستنتاج ليس إعلان تراجع عن الإيمان بمبادئ الإختيار الديمقراطي  و لكنه إقرار بضعف محاسبة من راكموا ثروات دون محاسبة  و أصبحوا أصحاب كل القرارات.  أمر إعادة إعمار المدن العتيقة جدي للغاية  و يتطلب الحرص الكبير على أن يتولاه ذوو الخبرة في إطار شفاف  و محاسبة كبيرة  و تقييم قبلي  و بعدي  و أثناء الإنجاز. إعادة إعمار المدن العتيقة ليس مجرد تغيير شكل أبواب  و صباغة حائط  و لكن تأهيل بنيات حضرية لخلق مناصب شغل  و حركة اقتصادية  و ثقافية تنبع من قلب الأحياء القديمة.  و لنا في الأحياء العتيقة لكثير من دول الجوار في شمال البحر الأبيض المتوسط أمثلة على إمكانيات تثمين رأسمال مدننا العتيقة.