آخر الأخبار

أخــطــبــوط يـتـحـكـم فـي الــرقــاب

سـعـد سـرحـان

لقد كان عبد الله رجلًا فقيرًا يُعيل أسرةً كثيرةَ الأفراد، فرعيّته تتكوّن من الأمّ والزوجة والحَماة والأولاد: هم تسعةٌ والضّنك عاشرهم. وبالرّغم من أنّه كان “رجلَ أشغالٍ” عصاميًّا متعدّد المواهب، يُجيد الصّباغة والنّجارة والسّباكة والحِدادة والخيّاطة وهلمّ جرًّا (أقصد جرّ العربات والبضائع والأمتعة وكل ما يمكن جرّه).وبالرّغم من أنّه كان يقضي سحابةَ النهار وجزءًا من اللّيل سعيًا وراء الرِّزق، فإنّه لم يستطع أبدًا أن يتخيّل البصيصَ في آخر النّفق. فالأولاد يكبرون وتكبر معهم طلباتهم. الأمّ والحَماة، يومًا بعد آخر، يشتدّ منهما الأوْد والسُّعال والشّكوى.أمّا الزوجة فلا بدّ أنّ غدّة الصّبر هي التي حوّلت صمتَها الكبير إلى تجاعيد مبكّرة. عدوى ضيق ذات اليد ستطول كلّ شيء في حياة عبد الله. فحتى بيته، وهو عبارة عن غرفة فوق السّطح، بدأ يضيق بين ضحىً وعشيّته… فإذا حلّ اللّيل كان على الجميع أن يناموا عَرْضًا وِفق ترتيبٍ حكيمٍ أبدعت الزوجة في تدبيره.الأرجح أنّ عبد الله اشتكى حاله لأحدهم، وإلّا من نصحه بزيارة ذلك الفقيه؟ ولمّا كان الفقيه في بلاد عبد الله هو الاسم العِلمي للدّجّال، فقد أفتى عليه بشراء عنزة سوداء وإيوائها في بيته… ثم ضرب له موعدًا بعد عشرين يومًا.في اليوم الأول وجد الأولاد في العنزة ضيفةً ظريفة، فمرّة يُلاعبونها، ومرة يقلّدون صوتها، ومرارًا يلتمسون، دون جدوى، الحليبَ في خِلْفِها الصغير. ومع مرور الوقت، بدأت ضيفة الشّرف تُشيع القرف في البيت.فقد صار على الزوجة أن تتحمّل النّقص المفرط في المصروف اليومي حتى يتسنّى للزّوج أن يُسدّد ثمن العنزة، وهو المصروف الذي صار يشمل علف الضيفة أيضًا. وبات على الأولاد أن يتحمّلوا مزيدًا من الاكتظاظ. كما صار على الجميع أن يتعايش مع هواء الغرفة الجديد. وحده الضّنك كان سعيدًا بحليفته السوداء.بعد عشرين عامًا، عفوًا عشرين يومًا، عاد عبد الله إلى الفقيه: أعرف أنّ حياتك اسودّت أكثر وأنّ بيتك ازداد ضيقًا وأنّ عيشك ازداد شظفًا… لكن، لا عليك. لقد أزفت ساعة الفرج، عُدْ إلى بيتك يا عبد الله، اذبحِ العنزة فكأنّما ذبحت الضّنك، وأطعمها لأولادك انتقامًا منه، أمّا تلك الرائحة فرائحة الشّواء كفيلة بها… فوالله لن تعرف حياتك بعد اليوم يومًا كأيّام العنزة.وكان أن صدع عبد الله بما أمر، فإذا الحياة بشاشة والعيش حُبور، وكأنّ سواد أيامه رحل برحيل العنزة السوداء.
في بلاد عبد الله الواسعة، حيث الضّيق هو السّمة العامّة للحياة (ضيق ذات اليد، ضيق الصّدر، ضيق السّكن، ضيق التّنفس، ضيق العيش وضيق فسحة الأمل…) ظهر فقهاء كثيرون، ما من ضائقة إلّا يصفون لها العنزة المناسبة.وحتى يظلّ الحَبّ والتّبن في بيادرهم، فقد أنشأوا حظائر جميلة وجعلوا لها سكرتيرات أجمل وموظفين أنيقين، واشتروْا لها مساحات إعلانيّة في القنوات التلفزيّة والجرائد السيّارة. فصارت تطالعُ المرءَ، هنا وهناك، عباراتٌ من قبيل: العنزةْ طريقك إلى العِزّةْ، اقترضْ بدل أن تنقرضْ، اسكنْ ولا تحزنْ، استهلكْ وسدّد على مهلكْ، خذِ العنزْ واربحِ الكنزْ، كل الطّاقةْ في هذه البطاقةْ، المِعزاةْ تطرد المأساةْ، قروض الأحلام: المستقبل على مائدة الحاضر…وهي العبارات السّحرية التي دفعت عباد الله، على اختلاف ضنكهم، إلى الفقهاء من مختلف المصارف. هكذا صار عبد الله يذهب إلى الفقيه، يدفع الباب الزجاجي برفق، تستقبله السكرتيرة بابتسامة مكويّة بعناية، تبادله كلماتٍ من نفس بلاستيك الباقة التي فوق مكتبها، تجلسه في قاعة الانتظار قبل أن يحين دوره وتأذن له بالدخول.لا علاقة لهذا الفقيه بذلك الدجّال، فالرّجل شابّ وسيم وأنيق ويجلس على كرسيٍّ دوّار أمام شاشة مسطّحة… حتى ليقسم المرء إنّه مدير بنك. كلمات قليلة كانت كافيّة ليصل الرجلان إلى مربط العنزة. العقد واضحُ الغموض: يختار عبد الله العنزة المناسبة والحبل الذي سيربطه بها، فيما يحدّد المدير قيمتها وثمن علفها لسنوات بطول ذلك الحبل. ينصرف عبد الله، ترافقه موسيقى حالمة لا يسمعها سواه، ليعود بعد أيّام بالوثائق المطلوبة (كل وثيقة وثاق)، يوقّع أوراقًا كثيرة حتى دون أن يقرأها، ثم يتسلّم، أخيرًا، صَكَّ العنزة.منذ ذلك الصّك صار عبد الله رجلًا وديعًا، يمشي جنب الحائط، يتحاشى الخلافات والمشاكل مهما صغرت، يعرض عن السّياسة، يقدّس القوانين، لا يحتجّ ولا يتظاهر… فقد انضاف إلى خوفه على قوت الأولاد رعبه من انقطاع العلف عن العنزة، وهو إحدى الكبائر عقوبتها لا تقلّ عن اشتداد الحبل حول عنق مرتكبها.نجاح العنزة في ما فشل فيه غيرها، بما فيه العصا والجزرة، سيجعلها، عقودًا قبل النعجة دوللي، عرضةً للاستنساخ على أعلى مستوى، ولنا في “صندوق العنز الدوللي” خير شاهد على ما نقول.فهذا الصّندوق الذي يشرف عليه كبار الفقهاء في العالم، تلجأ إليه الدّول التي تعاني ما يعاني عبد الله، فيفكّ ضائقتها ويقيل عثرتها بالعنزة المناسبة، تلك التي تُكلّف، مع علفها طبعًا، مستقبل البلاد والعباد.أما عبارة “إعادة جدولة العنزة” التي صرنا نقرأها هنا ونسمعها هناك، فهي تعني بكل بساطة تمديدَ الحبال التي تربط هذه الدول إلى ذلك الصّندوق وفق شروط وعقود (كل عقد قيد) وإملاءات وإكراهات وتعهّدات وما لست أدري من تعازيم فقهاء المال. ولفرط الحبال التي تمتدّ منه (حبال أم أحابيل؟) أصبح صندوق العنز الدوللّي هذا مثل أخطبوط تلتفّ أذرعه حول مئات الملايين من الرّقاب.وإذا كانت الشّجرة لا تخفي الغابة كما يقال، فإن العنزة، هذه العنزة بالذات تخفي قطيعًا من الذئاب.