يوسف اغويرگات
إلى الطفل عبد اللطيف نصيب
الذي جرفته مياه السيول بواد الشعبة من أمام أعيننا ونحن صغار
فبقي في الذاكرة أكبر من العمر
وأثقل من النسيان
اسمه شاهد مبكر على هشاشة الحياة
وذاكرة مدينة لا تنسى أبناءها
بعد أسبوع على الكارثة التي أودت بحياة عشرات المواطنين وألحقت خسائر جسيمة بالممتلكات، أجد نفسي مضطرا للعودة إلى الموضوع بهدوء، بعد أن كان الغضب يمنعني من ذلك طيلة هذا الأسبوع.
هذه اللحظة ليست مجرد سرد لحدث مأساوي، بل محاولة لفهم ما جرى، وتأمل في سنوات طويلة من التهميش والإقصاء والإهمال المؤسسي الذي طال المدينة، وما ترتب عن ذلك من هشاشة في البنية التحتية، وكيف يمكن لآسفي أن تعيد إنتاج نفسها رغم الألم والدمار. كما أن تواجدي هناك بعد الكارثة أتاح لي معاينة آثار الدمار في المنازل والأزقة، والاستماع إلى شهادات ناجين من موت محقق، والتفاعل مع مثقفي المدينة والفاعلين المدنيين الذين أسهموا في مساعدة السكان وإعادة الحياة إلى بعض المناطق المتضررة.
قبل شهر فقط، كتبت عن أصوات شرفت المدينة وأضاءت وجوهها بالكلمة والموقف، مؤكّدا أن آسفي مدينة تستحق أن تُستمع إليها، أن تُحفظ، وأن تُعيد إنتاج نفسها في المستقبل. واليوم، بعد الفيضانات الأخيرة، تتحول تلك الدعوة إلى صرخة من الألم تكشف سنوات طويلة من الإهمال المؤسسي، وكأن كل لحظة سابقة من التغافل تراكمت لتفيض معها مياه الوادي على الأزقة والبيوت، لتجعل المدينة بأكملها شاهدة على غياب الحماية والرعاية.
مفارقة آسفي
كيف لمدينة غنية بالثروات الوطنية وتشكل دعامة أساسية في اقتصاد الوطن أن تفشل في حماية حقوق أبنائها أمام أبسط تحديات الطبيعة؟ وكيف تُترك عارية أمام أول اختبار للأمطار، وكأن الثروة تتحول إلى هشاشة بدل أن تمنح الحماية؟
آسفي، بثرواتها السمكية والمعدنية، ومحطتها الحرارية ومصانعها المتنوعة التي تشمل الصناعات الكيماوية والغذائية والنسيج والتصبير، تعد قلبا اقتصاديا لا يُستهان به. ومع ذلك، يكشف الواقع الاجتماعي عن صورة مغايرة، البطالة المتفشية وتدهور البيئة يثقلان كاهل السكان، فتتحول الثروات إلى وعاء عاجز عن منح المدينة كرامتها، وتفضح الأمطار الطارئة هشاشة بنيتها الاجتماعية والمادية، وتكشف عُريها وهشاشتها.
لم تكن فيضانات دجنبر مجرد سيول، بل كانت شهادة دامغة على أن التنمية التي تُغفل العدالة الاجتماعية ما هي إلا وهم يتبدد مع أول اختبار للطبيعة. فالمدينة تعاني منذ عقود من مشاكل اجتماعية متراكمة، من فقدان فرص العمل وتدهور الخدمات إلى أوضاع معيشية صعبة. وكل حدث طبيعي يفضح هشاشة شبكة الحماية الاجتماعية وفشل السياسات التنموية في تحسين حياة الناس.
الفيضانات الأخيرة جاءت لتؤكد أن الثروة الاقتصادية وحدها لا تكفي لحماية المدينة، وأن الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الأساسية أصبح ضرورة ملحة لتجنب تكرار مثل هذه الأزمات مستقبلا.
ساعة واحدة صنعت الفاجعة
في يوم الأحد 14 دجنبر 2025، اجتاحت الفيضانات المدينة خلال فترة وجيزة، مسببة أضرارا جسيمة في المنازل والمحلات التجارية. ساعة واحدة كانت كافية لتكشف عقودا من الإهمال، إذ لم تكن الفيضانات حدثا طبيعيا فقط، بل محكمة علنية للبنية التحتية.
المياه تدفقت بعنف في الأزقة الضيقة، دفعت السيارات وكأنها لعب، فيما تسابق السكان لإنقاذ الأرواح. تحرك أبناء المدينة القديمة بسرعة مذهلة، مانعين بذلك أن تتحول الكارثة إلى خسائر أكبر بكثير.
وما شاهده العالم كله من خلال الفيديوهات والصور المنتشرة كان توثيقا عالميا لفداحة الوضع، وفضحا لهشاشة البنية التحتية. في لحظة، تحولت الأزقة إلى أنهار، والبيوت إلى ذاكرة غارقة تبحث عن نجاة.
الأسباب والمسببات
كل قطرة ماء كانت تفضح عقودا من الإهمال.
للفيضانات دور طبيعي لا يُنكر، إذ يتميز واد الشعبة بصغر حوضه وشدة انحداراته، ما يجعله حساسا للغاية للفيضانات المفاجئة عند هطول أمطار غزيرة.
لكن العوامل البشرية والإهمال المؤسسي لعبت دورا حاسما أيضا:
البناء العشوائي بمحاذاة مجرى الواد وتضييق مساره (بناء عشوائي اتخذ طابعا قانونيا في غفلة من أي مساءلة أو محاسبة)؛
وضع قطع خرسانية ضخمة لسد مخرجه، حوَّل الوادي الطبيعي إلى حوض محصور بدل تصريف المياه إلى البحر؛
تجاهل التحذيرات المتكررة من المجتمع المدني منذ منتصف فصل الصيف، دون استجابة فعلية (التحذيرات موثقة بالصوت والصورة).
وتؤكد العديد من التقارير أن صيانة البنية التحتية في آسفي لم تحظ بالاهتمام الكافي على مدى سنوات، ما يجعل الكارثة نتيجة تراكم إخفاقات مؤسسية واضحة.
الأثر على السكان والمدينة
لقد كنت هناك بعد الكارثة، وشهدت الدمار الذي حل بالمنازل والمحلات، ولاحظت حجم الخسائر المادية والمعنوية. استمعت أيضا لشهادات حية من السكان، يقول أحد الناجين من شفا الموت “لم أر شيئا كهذا في حياتي… لم يبق شيء كما كان.” وقال آخر “لولا شهامة أبناء المدينة القديمة الذين سارعوا لإنقاذ الغرقى، لكانت الحصيلة أكبر بعشرات الأضعاف”.
التضامن الشعبي هنا لم يكن مجرد رد فعل، بل إعادة إنسانية للمدينة حين غابت المؤسسات. عزائي للموتى، الذين أعرف بعضهم شخصيا، يجعل الفاجعة أكثر وجعا ويؤكد ضرورة التحرك العاجل لإعادة الاعتبار للمدينة وحماية سكانها.
أولويات التدخل بعد الكارثة
لمواجهة آثار الفيضانات والتخفيف من معاناة السكان، يجب تنظيم العمل على ثلاثة مستويات متكاملة:
المستوى الأول – الإغاثة العاجلة:
تقديم المساعدة الفورية للمتضررين، بما في ذلك الأسر التي غمرت المياه منازلها، والمحلات التجارية التي فقدت مصادر رزقها، والأبنية التي تعرضت للتشققات بفعل قوة الفيضان.
المستوى الثاني – إعادة تأهيل البنية التحتية:
إصلاح شبكات الصرف الصحي، إعادة تأهيل الطرق والمرافق العامة، إزالة التعديات على مجاري المياه، وتعزيز قدرة المدينة على مواجهة فيضانات محتملة في المستقبل.
المستوى الثالث – تحسين مستوى عيش الساكنة:
دعم المشاريع الاقتصادية ذات النفع العام، خلق فرص العمل، وضمان العيش الكريم للسكان، بما يحقق التنمية المستدامة ويقلل من احتمال تكرار الكوارث في المستقبل.
المساءلة والتدخل القانوني
تفاعلا مع حجم الفاجعة، صدر أمر ملكي بالتدخل العاجل، أعقبته إجراءات حكومية للتنسيق مع الأجهزة المختصة. غير أن الإعلان الرسمي عن آسفي، وتحديدا المدينة القديمة، منطقة منكوبة، يظل خطوة أساسية لتفعيل نظام تغطية عواقب الوقائع الكارثية المنصوص عليه في القانون رقم 110.14 لسنة 2016.
ومن المهم تصحيح سوء فهم (روج له أحد البرلمانيين وتبعه بعض الصحفيين) لا يشترط القانون استمرار الكارثة لمدة 500 ساعة لتفعيل الصندوق، بل يكفي إعلان الواقعة الكارثية بقرار إداري وتحديد المناطق المتضررة.
هذا التوضيح ليس مجرد مسألة قانونية، بل ضرورة لحماية حقوق المتضررين وضمان وصول التعويضات دون عراقيل، كما يؤكد الحاجة الملحة لتفعيل التدابير الوقائية والصيانة المنتظمة للبنية التحتية لتجنب تكرار الكارثة.
دعوة إلى تصحيح الخذلان وإعادة بناء الثقة
آسفي اليوم أمام امتحان وجودي، إما أن تُستعاد إليها الحياة عبر استراتيجيات مستدامة للوقاية وتعزيز البنية التحتية، أو أن تظل أسيرة هشاشة تتكرر مع كل موسم مطري. وأتوجه بنداء عاجل إلى أصحاب القرار للنهوض بأوضاع المدينة وساكنتها على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية. فالمدينة لم تعد كما كانت تُعرف في زمن العلامة ابن خلدون بـ”حاضرة المحيط”، بل أصبحت قرية كبيرة مترامية الأطراف، تعاني من الإهمال والإقصاء وتفتقد البنية الحضرية المتكاملة.
ساكنة آسفي تنتظر أن يكون التدخل من أعلى مستوى في الدولة، لتفعيل الإجراءات التي تُحسّن مستوى العيش، وتحفظ الكرامة، وتضمن حياة آمنة ومستقرة، وتعيد للمدينة مكانتها كعاصمة ساحلية منتجة للثروات ومساهمة في ازدهار الاقتصاد الوطني. وكل ساكنة مدينة آسفي تنتظر من رئيس الحكومة إعلان المدينة القديمة منطقة منكوبة، وسيكون ذلك تجلّيا من تجليات تطبيق القرار الملكي.
حماية آسفي ليست مجرد شأن محلي، بل امتحان لجدية الدولة في صون ذاكرتها وحماية مواطنيها أمام تحديات الطبيعة والتاريخ. إعادة الاعتبار للمدينة ليست مجرد رد فعل بعد الكارثة، بل خطة عمل شاملة تحمي الإنسان والمدينة على حد سواء، لتظل آسفي حيّة وآمنة، قادرة على الصمود، ومثالا للتنوع الثقافي والإبداع، دون أن يغيب عنها الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
المياه التي اجتاحت الأزقة لم تكن مجرد سيول، بل تاريخ من الإهمال يتجلى دفعة واحدة. إن إنقاذ آسفي اليوم هو إنقاذ لذاكرة المغرب وتصحيح لمسار تنموي لا يحتمل المزيد من الخذلان. فالمدينة ليست قضية محلية فحسب، بل اختبار وطني لصدق وعود الدولة التنموية. إعادة بناء آسفي اليوم ليست فقط إنقاذا لمدينة، بل بداية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتحويل الفاجعة إلى فرصة لإرساء مستقبل أكثر أمانا واستقرارا لكل أهلها.
وفي الختام، وأمام هذا الواقع، أود أن أشير إلى أن أغلب المسؤولين اليوم جدد في مواقعهم (عامل الإقليم، الباشا، الكاتب العام)، وأتوجه إليهم مباشرة، إن المسؤولية التي حملتموها لم تكن سهلة يوما، لكنها اليوم ازدادت تعقيدا وصعوبة، وتتطلب الشجاعة والجرأة لمواجهة التحديات، وحماية حقوق السكان، وضمان كرامتهم.
إنقاذ آسفي اليوم ليس مجرد إنقاذ لمدينة، بل إنقاذ لذاكرة وطنية من الغرق في الإهمال. ومستقبلها هو اختبار حقيقي لقدرة الدولة على تحويل الألم إلى عقد اجتماعي جديد، يحفظ الحقوق، ويضمن الأمان، ويعيد الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
