سـعـد سـرحـان
حين سأل القاضي الشبان الثلاثة عن تهمتهم ردّ أحدهم قائلا: “والو نعاماس غير فبلاصت ما نبقاو ناشرين الكَدِّيدة، ولاَّ نبقاو خيطي زيطي، كَلنا نخويو النّْمَر وحنا ندوزو عند الكَراب تقضّينا واحد الربعة ديال البَطَّات، وخرجنا للخلا يلاه بدينا نْكَفْحو فْلْعَبَّار اللوّلن وهي تطوّط علينا الواشمة، نزلو الحناش وقرقبو علينا سْوارت الرّبح” .وفي محكمة أخرى تقدمت امراة من القاضي تشكو غياب زوجها: “آسي القاضي راجلي غبر ليه الشقف. مشى وخلاني عريانة كَريانة. راه قلّبت عليه حياط مياط ما خليت عليه لا حاحة لا ملاحة لا قصيبة العواد”.وفي حكاية ثالثة أن حافلة سياحية توقفت بأحد ربوع المغرب فنزل راكبوها ليأخذوا صورا تذكارية مع الجمال (بفتح الجيم أو كسرها سيان) ، وبينما هم كذلك، لاحظت إحداهن حاديا صغيرا يضع عصابة على رأسه، فسألته، عبر المرشد السياحي، عن مُصابه، فكان جوابه “هَرَّمْني قيبار” فسُقط في يد المرشد وفي لسانه معا.هذه نماذج لمغاربةٍ لم يتأثر لسانهم بدرس في المدرسة أو إشهار في التلفزيون أو قصيدة من قصائد الملحون… لذلك فهم يتكلمون دارجة لا تضاهيها فصاحةً سوى لغةُ بدو الصحراء. فخيطي زيطي وحياط مياط وعريانة كريانة.. تُذكِّر على الفور بشذر مذر والحابل والنابل وحيص بيص الذي وقع فيه المرشد أمام السائحة، أما لا حاحة لا ملاحة لا قصيبة العواد، فهو التحدي الذي رفعته المرأة المغلوبة على أمرها، دون أن تدري، في وجه باقي اللغات. ولو قُيِّض لدارجتنا المغربية أن تنجب سيبويها خاصا بها لكان هؤلاء بالنسبة إليه بمثابة الأعراب بالباب.لكي يخفّفوا الحكم عن أنفسهم، ولكي تُحمل شكواها على محمل العدل، ولكي يُعرِب عن مصابه للعجم ويستدرَّ منهم بعض الكرم، لا بد أن الشبان والمرأة والطفل استعملوا أحسن ألفاظهم وأكثرها وضوحا… ومع ذلك لم يَفُقها في الوضوح سوى ما عكسته قسمات القاضيين والمرشد.وإذا كان المبنى في هذه الأمثلة يحول دون الوصول إلى المعنى، فإن المعنى في غيرها مُكتفٍ بمناعته. ففي حكاية قديمة أن لصا أفلت بالمسروق فيما ألقي القبض على شريكه، وبعد مدة مر بصاحبه وهو يقوم بالأعمال الشاقة تحت الحراسة، وما إن رآه من بعيد حتى خاطبه: “مابين إِيَّه ولاواه تدبير عنداك تبدل النّقرة بالقزدير مول ربعة تباع بربعين هزّ ونزّل بعشرين دخَّل وخرَّج بعشرة تلاتين وخمسة عند مولات الكَصة”. الكلمات في هذا الخطاب بسيطة لفرط تداولها، ومع ذلك فهي عصية إلَّا على المُخاطَب. أما نحن فنحتاج إلى ظروف النص لنعرف أن الأمر يتعلق بحصان بسرجه ولجامه وأن نصف ثمن المسروق تسلمته زوجة السجين كما تقتضي أخلاق شريكه.تختلف الدوارج المغربية من منطقة لأخرى ومن مدينة لأخرى كما تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية… حتى أنه حيث تُعَرِّش “نتينا والبهلان… والمشية بالقالة والحشية بالميتر” تعشش دارجة من قبيل “الدزداز ويد المهراز دْريوْسة خو طوطو مول الفاصمة زنداكي ديال سنيما بوجلود” و”بَّاكْ الحلوي مول القَنَّارية عطيه ربعطاش يرد عليك ست وتلاتين” .فكيف سنفهم هذه الدُّرَر من النثر المغربي الرفيع في غياب ظروف النص؟إننا لا نعرف الكثير عن عامية المغاربة خلال القرون الماضية، لكن الأمثلة التي أوردت، وهي غيض من فيض، تدل على ان بعض عاميتنا لا يقل استغلاقا، مبنى ومعنى، عن فصحى العصر الجاهلي.تسمَّى الدّارجة المغربية دارجة لأن الناس درجوا على استعمالها في حياتهم اليومية، وتسمى عامية لأنها لغة العامة من الناس، وتسمى لهجة لأنها غير معيارية، وتسمى لغة لنجاحها الباهر في جعل “كلها يلغي بلغاه” في إشارة بليغة للتعدد. وإذا جاز لنا أن نفعل، فإننا سنُجمل كل هذه التسميات في واحدة: “لسان المغاربة”، على غرار “لسان العرب” مع فارق أن ما من قاموس يمكن أن يحيط به طالما أن أهله يبدعون به يوميا صفحات جديدة.يدين اللسان المغربي بالكثير للفصحى، ليس فقط لجهة الكلمات، وإنما أيضا لجهة البلاغة بكل عناصرها. ولما كنا بصدد ورقة فقط، فسنكتفي ببعض الأمثلة. ففي منطقة من المغرب، إذا أتى الواحد فعلا مشينا قيل عنه “قفّرها” وفي أخرى يقال “خْلاها”، ورغم أن المنطقة الأولى قد تكون هي الأبعد عن الثانية، فإن القفر هو الأقرب إلى الخلاء. وكما أن الفصحى تكرم الميت قبل دفنه فإذا هو: مات وقضى نحبه ولقي حتفه والتحق بالرفيق الأعلى…فإن اللسان المغربي يذرف على الميت غير قليل من العبارات (وليس العبرات)، أشهرها أنه “علّق الصّباط” و”عَبَّا لعجين”.أما الأولى فمستعارة من كرة القدم، ذلك أن اللاعب اذا اعتزل يعلق حذاءه الرياضي لعدم حاجته اليه، وكذلك يفعل الميت حين يعتزل الحياة. وأما الثانية، ابنة المدينة العتيقة، فشديدة التوفيق، ذلك أن اللوح الخشبي الذي يُحمَل عليه العجين والمنديل الأبيض الذي يُلَفّ فيه يُذكِّران بالنعش والكفن، أما الميت فليس سوى عجينة الصلصال، تلك التي كانها قبل أن تنفخ فيه الروح. ولعل التحليل النفسي أن يضيء لنا النفس الأمارة باللهو عند واضع العبارة الأولى، حيث الحياة ليست سوى لعبة يمكن اعتزالها، والنفس الأمارة بالسوء عند واضع الثانية، حيث الميت ينتهي لا محالة في جهنم انتهاء العجين في الفرن.وبعيدا عن الموت قريبا من الحياة، يلاحظ أن التحرش الجنسي حفيد الغزل، حفيده غير المهذب. فقديما كانت النساء الجميلات طرائد العشاق، فهن الغزالة والظبية والريم والمَهاة… ولم يكن من سبيل إلى قلوبهن سوى سهام الغزل، فأبدع الانسان أجمل فصل في ديوان العرب. أما الحفيد الفظ، فلم تجد الطرائد من حوْلٍ وحيلة أمامه سوى التحول إلى أسلحة أين منها السهام، فإذا هذه قرطاسة وتلك قنبلة… وليس أغرب مما حدث للغة مع التحرش سوى ما حدث لقط المختبر. فقد دخل القط غرفة العمليات فإذا هو قط، mon chat, chat, cat فخرج وهو عبارة عن “مُشَّة” بعد أن تغير اسما وجنسا.ومن لغة الأم أستَلُّ هذه العبارة “قْلي الفول وشَدّْ المرسول”، وهي الرسالة الشفوية التي كنتُ كلما حملتها إلى الجيران يحتفظون بي عندهم حتي تفرغ أمي من شغل أو تعود من مشوار. ولن أعرف إلا بعد سنوات أن لِرسالةِ أمي شبيهات في الفصحى حمل إحداها طرفة بن العبد فحملته إلى حتفه، وذهب المملوك جابر بأخرى مكتوبة فوق رأسه فذهبت برأسه.والجدة؟ ألسنا مدينين للغتها بالكثير؟ لقد كانت الجدة بالنسبة لأجيال عديدة هي الحضانة والحصانة من العقاب، هي الدروس والعِبَر والرسوم المتحركة… بأحاجيها تستدر منا النوم، فإذا نحن أمام مكر الثعالب وحكمة القنافذ وطبائع باقي الحيوانات. تعلمنا منهاالكثير قبل أن نقرأ كليلة ودمنة. وفوجئنا بعد الدخول الى المدرسة بانتحال حكمتها “والله وما قْفَلتيه لا فوَّرتيه” وقد صارت حكمة اليوم “من جدّ وجد ومن زرع حصد”.هذا بعض من لسان المغاربة، اللسان الذي لا يجوز أن نُخرجه في وجه الفصحى حتى لا نكون كمن يهجو مَن عَلَّمَهُ نظم القوافي.أثناء اجتيازه لفرض محروس في مادة الفيزياء، وظف تلميذ عبارة فرنسية أنَّث بها مذكرا، فكلفه ذلك خصم نقطة، وهو ما لا يمكن أن يحدث في حصة الفرنسية لو أن نفس التلميذ خلط بين الكتلة والوزن. فمدرس الفرنسية مكتف بفرنسيته ولا يضيره ألا يفرق بين مفهومين فيزيائيين، أما مدرس الفيزياء فيحتاج ليس فقط إلى إبداء فرنسيته عند الضرورة، وإنما إلى إظهار ولائه لها بعقاب من يسيء إليها. لنفرض أن تلميذنا أنث ذلك المذكر في فرض اللغة الفرنسية، سيخصم له الأستاذ نقطة، وهذا من حقه، فيكون المسكين قد عوقب في اللغة كمادة وكأداة للتدريس. الأستاذ مرَّ بالكثير من الأخطاء اللغوية في نفس الفرض دون أن يشير إلى أي منها، فهو أستاذ للفيزياء وليس للعربية. التلميذ وظف بعض الكلمات العامية في الفرض عجزًا عن إيجاد مقابلها الفصيح أو ظنا منه أنها فصيحة لفرط سماعها في الفصل الدراسي. فماذا فعل الأستاذ الذي يستعمل الدّارجة للتواصل مع التلاميذ؟ لقد حاصر تلك الكلمات بدوائر حمراء و أوسعها علامات تعجب.يلخص هذا المثال بعضا من الوضع اللغوي داخل الفصل الدراسي، حيث الفرنسية هي “الأخت الكبرى”، وحيث الضحية هو الأستاذ أيضا بوصفه الدليل القاطع على أن المدرسة المغربية قد تصيب بانشطار الشخصية وليس بانفصامها فقط.