آخر الأخبار

الملحون تراث غير مادي للبشرية – 2 –

أنس الملحوني

فن الملحون واعتراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة … سياقات تاريخية:

بداية، هنيئا لكل المغاربة بهذا الاعتراف الدولي الكبير، الذي فتح الأبواب مشرعة، بعدما سلط الضوء على أحد مظاهر الحضارة المغربية، المتمثلة في منظومة ثقافية رفيعة، عميقة ومتشعبة مضامينها، جمعت ما بين الشعر والأدب والموسيقى والأداء؛ وهنيئا – أيضا – لكل المنتسبين لفن الملحون على وجه الخصوصِ: شعراءَ، منشدين، عازفين، باحثين، شدادة، جمعيات فنية، مسؤولين، منتخبين … فإليهم يرجع الفضل أمام هاته النتيجة الإيجابية التي سيكون لها ما بعدها على اعتبار أن فن الملحون الذي عمر لأكثر من سبعة قرون متحديا من جهة، كل التحولات الثقافية التي عرفتها البنيات الاجتماعية المغربية، ومن جهة ثانية، قاوم كل أشكال المثاقفة الخارجية التي سعت إلى اجتثاث المواطن المغربي من تربته الأصيلة في أبعادها الثقافية والدينة؛ فلنا إذن أن نستبشر خيرا بما يمكن أن يكون من تداعيات إيجابيةٍ على هذا الحدث الدولي.

تعود الإرهاصات الإجرائية الأولى لتكوين ملف تبنته أكاديمية المملكة المغربية، يدعو منظمة اليونسكو إلى إدراج فن الملحون في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية خلال سنة 2017، حيث نظمت الأكاديمية بمقرها تحت إشراف الدكتور عباس الجراري، يوما دراسيا في موضوع “لغة الملحون” وذلك يوم الخميس 18 ماي 2017، شاركت فيه ثلة خيرة من الباحثين الملمين بفن الملحون شعرا وأدبا وتاريخا وموسيقى من المغرب وفرنسا. وفي ذات السياق، نظم بتاريخ يوم الأربعاء 24 ماي 2017 بمقر أكاديمية المملكة حفل فني باذخ أشرف على إعداده وتنسيقه وإخراجه الأستاذ عبد المجيد فنيش، أما التنسيق الموسيقي فكان للفنان محمد الوالي. جمع الحفل ما بين الإنشاد، والتمثيل، والتشخيص، والسرد، شاركت فيه نخبة وطنية من أمهر العازفين والمنشدين والشعراء، وذلك بمناسبة صدور الديوان العاشر من مشروع “موسوعة الملحون” التي أشرفت عليها جمعا وإعدادا لجنة الملحون التابعة لأكاديمية المملكة المغربية تحت رئاسة الأستاذ عباس الجراري عضو الأكاديمية. خلال هذين الحدثين، تمت دعوة وزارةِ الثقافة، الجهة الرسمية المخول لها إداريا وتقنيا، لكي تتبنى طلب المملكة المغربية، وتقود مشروع الملحون لدى الأجهزة التابعة لمنظمة اليونسكو. 

وإذا كان الملف المغربي قد حظي بالتثمين الذي أفضى إلى هذا الاعتراف الدولي، فلأن فن الملحون فن إبداعي مغربي أصيل، ميز المغاربة منذ عدة قرون بوصفه أدبا رفيعا، وشعرا بليغا، متجذرا في البنيات الاجتماعية المغربية، عرف تطورا على مستوى الشكل والمضمون، حتى أضحى عنوان عبقرية مغربية فريدة من خلال لغته الخلاقة، ومعجمه الثري، وأغراضه المختلفة، وعَروضه المتنوع.

فن الملحون هو عنوان حضارة مغربية ضاربة في القدم، فمن خلاله عالج شاعره الملهم العديد من القضايا التي شغلت بال المجتمع المغربي، وقد ظهر ذلك في تنوع وتعدد الأغراض التي تغنى بها منذ الإرهاصات الأولى لهذا الفن الأصيل حيث الغلبة كانت للمضامين الدينية مثل: “التَّصْليَّات“، التَّوسُّلات“، “الشَّوقِيَّات“، “الزُّهْدِيَّات“، “المدائح النبوية“… وتناسل بعد ذلك عدد غير يسير من الأغراض الأخرى مثل: “العْشَّاقي أي الغزل“، ” الرّْبيعيَّات في وصف الطبيعة“، “الخَمْريَّات في أبعادها المختلفة“، “الوَطَنِيات وَالقَومِيَّات“، “الهَزل والتَّفَكُّه“، “النَّصَائِح أو لُوصَايَا“، وما شابه…

لقد استطاع شاعر الملحون أن يرسم بدقة عالية صوره الشعرية وأخيلته الإبداعية البليغة، معتمدا على لغة عامية بليغة فاقت في استعمالاتها البلاغية والإيقاعية العروضية ما قد يقف عليه المتلقي العادي في الشعر المدرسي، حتى شاع بين المنتسبين لهذا الفن بأن: “المَلْحُونْ افّْرَاجْتُو فَاكّْلاَمُو” أي في لغته الشاعرة البليغة الواصلة العذبة المُقنعة. 

وعليه، لم يكن بد لفن الملحون إلا أن يجد له مَراتع خصبة في كبريات الحواضر المغربية، وفي أوساط كل فئات المجتمع المغربي، من المواطن العادي حتى الأمراء والملوك، مرورا بالشعراء، والأدباء، والعلماء، والمتصوفة، ورجال السياسة، والعازفين، والمنشدين، وما شابه. 

إضافة إلى ذلك، لقد أصدرت أكاديمية المملكة المغربية خلال سنة 2014 ديوان السلطان مولاي عبد الحفيظ حيث قال في مقدمته التحليلية الدكتور عباس الجراري متحدثا عن السلطان مولاي عبد الحفيظ ما نصه: “… فإنه قد أوجد لنفسه موقعا متميزا في سُوح العلم والأدب والتأليف وقرض الشعر“؛ وقال أيضا: “…، وأنظر في الديوان من حيث هو إبداع، وفق المقاييس التي تعارف عليها أشياخ الملحون، أجد للشاعر المولى عبد الحفيظ عدة خصائص تبرزها قدراته التعبيرية …”؛ وفي ختام المقدمة، جاء في حديث الدكتور الجراري ما يلي: ” فبالإضافة إلى قيمته الإبداعية الدالة على علو كعب المولى عبد الحفيظ في فن الملحون، إلى جانب مكانته العلمية والأدبية وما له في مجال التأليف وقرض الشعر المعرب، فهو وثيقة تكشف جانبا يُغني ما تسعف به الوثائق التاريخية في معرفة بعض خبايا حياته الخاصة، …”