ذ عبد الرحمان الخرشي
.
غير خاف أن اللغة العربية كنز زاخر، وماء لا ينضب، وعمق لا يدرك كنهه إلا من غاص عمقه وسبر أغواره، ومن جاس خلال ديارها، وجاب نجادها ووهادها، وراد مروجها، وورد مناهلها، فهي أوسع لغة في دنيا البشر على الإطلاق، وهي جامعة لعدة من الخلائق في المغارب والمشارق، ولحمة عظمى لعدة أجناس؛ للعربي والتركي والفارسي… وهي أضمن منجم يستطيع المحافظة على كنوز الفكر والأدب الإنسانيين ما تعاقب الأدومان، بل باللغة العربية نزل كتاب الله، يتعبد به ويتلى على مدى الدهر.
أوصى أحد فلاسفة الألمان يوماً تلاميذه فقال:« إذا أردتم أن تكتبوا فكراً تأمنون عليه كرور الأجيال فاكتبوه بالعربية فإن لها دون غيرها من اللغات مزية فقالوا:« وما مزيتها؟ فقال:« لأن في العالم أمة عظيمة العدد ترى من أصول دينها تلاوة كتاب فيها يسمى( القرآن ) ولا شك في بقاء الأديان في الأمم العظيمة الشأن، وحينئذٍ فلا ريب إن هذا الكتاب يبقى ما بقي هذا الدين وإن العربية تبقى ما بقي هذا الكتاب ».
إذا كانت للغة العربية الفصحى مزية هي هذه، فكيف هو حالها اليوم؟ وكيف تعامل معها أبناء جلدتها؟
توجد اللغة العربية اليوم في مواجهة ألغام كاسحة لكيانها- بالرغم من عظمتها وجلالها – وجميعها توفرت لها إمكانات مادية وبشرية ومعنوية، فهي ألغام توفرت لها ثلاثة أدرع قوية تسندها بقوة أعانها على فعلتها تاريخ مديد وأقوام لهم منفعة في الأمر؛ وهؤلاء هم:
.
دعاة التغريب:
.
لا شك أن بواكير نهضة الأمة تأسست على خلفية نعرفها؛ هي الاستفادة من الغرب ومن منجزاته العلمية التي لم تكن بطبيعته وفي أساسها غربية، لكنها استفادة مغشوشة تمت عن طريق طلائع الاستشراق التي أسس لها إدوارد سعيد في كتابه المعروف” الاستشراق ” وتتبع أهدافه كتاب عظام أهمهم عندي الدكتور عباس أرحيلة ضمن مشروعه الفكري الذي أثمر نتائج مهمة في الموضوع.
ومن المعلوم أن تلك البعثات العلمية التي باتت ترسلها البلدان العربية من حواضرها في كل من لبنان ومصر والمغرب مثلا، فقد وصل صدى التعبير عن غايات هذه البعثات- أثق فيها – عن طريق كتابات رواد السرد العربي؛ كما عند الطيب صالح في روايته ورائعته” موسم الهجرة إلى الشمال “، وسهيل إدريس في روايته الحضارية” الحي اللاتيني “، وأخيراً عبد الله العروي في منجزه السردي المميز” أوراق “؛ صحيح إنها بعثات علمية لكنها كانت مغلفة بنوايا وأهداف استعمارية تهدف إلى الاستيلاء على مقدرات البلاد العربية عن طريق هذه النخب التي تم تأهيلها لذلك في إطار هذه البعثات، مما فتح التعليم في هذه البلدان العربية على زيادة الاهتمام بلغة المستعمر لغايات اقتصادية واجتماعية وفكرية و… وعزز هذا تلك القلاع التي أسس لها الاستعمار داخل البلدان العربية، وحظيت بالاهتمام الزائد من طرف الشباب لأنها وجدت في الأمر تفاعلا مع القوى الاقتصادية التي اعتمدت عليها البلدان العربية في مناصب فـُتِحتْ في وجه من صار يتحدث لغة الغرب، ويسير على نهجه في الحياة الخاصة والإدارية والمهنية العامة؛ هنا يمكننا الجزم بتأثير التغريب وتأثير لغات الغرب على الاهتمام دون النظر إلى أن التغريب عاد فلسفة جُنِّد لها خبراء وعلماء، وقبلت بها البلدان العربية واقعاً جديداً وطارئاً انعكس على أرض الواقع في أبسط المظاهر العامة !
.
دعاة العاميات:( الدعوة إلى العاميات )
.
هذه ليست دعوة فقط حتى وإن كان لها رجالها، بل يمكن النظر إليها باعتبارها منجزاً مشينا انعكس على أرض الواقع العربي دون استثناء، فهو لا يخص بلداً عربياً دون الآخر؛ فكل البلدان العربية ابتليت بهذا البلاء المستطير؛ فلهجة المصريين أو الحجازيين تخالف لهجة غيرهم من المغربيين أو الشاميين، وعمق هذا الجرح في هذه البلدان العربية الاقتصاد عن طريق الإشهار، ناهيك عن وسائل الإعلام التي تكفلت بنقل الصورة من بلد عربي إلى آخر، وعبر وسائل التواصل الحديثة، وسرعة التنقل من بلد عربي إلى آخر وفق مصالح ما، كل هذا- وغيره – سيعمق هذا الجرح أكثر فتستعمل العاميات في مشتل تربية الأجيال التعليم والتعلم، وهو ما ساعد على إماتة اللغة العربية، وقلل من حب لغة الضاد عند العرب خير أمة أخرجت للناس.
نعم، إن من أحب الله أحب رسوله العربي ومن أحب رسوله أحب العرب ومن أحبهم أحب اللغة العربية ومن أحبها اعتني بها وثابر عليها وصرف همته إليها دون أن تعرض على يديه للتلف كما صنا نلاحظ؛ فإن العرب خير الأمم والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تعلمها من الدين، إذ هي أداة العلم وواسطة التفقه في الدين وسبب إصلاح المعاش والمعاد !
.
المفرطون في لغتهم من” أبناء العربية “:
.
من مؤشرات تفريط العرب في لغتهم مؤشرات نفسية وحضارية واجتماعية واقتصادية…
فأما الجانب الأول فيتمثل في استسلام ورثة العربية أمام تلك الدعايات الرخيصة التي يبثها أعداء العربية والإسلام، من قبيل قصورها وعدم مواكبتها لمستجدات العصر، وهذان الحكمان ظالمان قديمان سببهما جهل هؤلاء باللغة العربية وبقدرتها الخارقة- دون غيرها – على التعبير عن كل العلوم والفنون والآداب… كل ذلك بما توفر لها من الكلمات، وهذا مما صدقه الواقع اليوم. أما الجانب الثاني فنؤشر عليه بمدى انبهار الإنسان العربي أمام الحضارة الغربية دون تفكيره في جذورها وأسبابها ولم يعبأ إلا بأنها( النهضة ) و( التقدم ) و( العصرنة وتأثيراتها المُعَوْلَمة ) وهلم جرا… والثالث له علاقة بالأول والثاني أؤكد على ترابطهما بما حدث من صدمة حقيقية عرفها العقل العربي المسلم بعد سقوط الأندلس، فردوس المسلمين المفقود، الشيء نجم عنه ما قرره ابن خلدون في عنوان الفصل الثالث والعشرين من مقدمته:( في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده )؛ وكانت اللغة العربية أحد ضحايا هذا الوضع… والرابع من السهل أن يلتفت أحدنا إلى ما بين يديه من الضروريات؛ سواء مواد إعلامية، أم بضاعة، دواء، ملصقات إشهار، ووسائل التواصل العصرية ليجد نفسه لا يمكنه التعامل معها جميعها إلا وهو داخل قفص لغات أخرى غير اللغة العربية في واقع مأزوم بالذاتية والأنانيات الفردية والمصلحة الخاصة.. كيف لنا أن ننهض بلغتنا، أما هي فعروس أو غادة حسناء مقرطة الأذنين تخطب ود من يستحقها.
.
إجمالاً: اللغة العربية ضحية أوضاع أهلها لما ضيقوا عليها وجعلوها عرضة للتغريب والعاميات والتفريط !
وبذا فالموضوع مفتوح وقابل للإضافة والنقد والتصويب ألا تستحق منا لغة القرآن الكريم ما ندلي به وهي في عيدها العالمي الجديد باعتراف صريح من الأمم المتحدة وفي ظل ذلك التفريط.